Friday, January 21, 2005

مختارات الحديقة .....معروف الرصافي


معروف الرصافي
هيَ المواطنُ أُدنيها وتُقصيني


مثلُ الحوادثِ أبلوها وتُبليني
قد طال شكوايَ من دهرٍ أُكابدُهُ


أَمَا أُصادِف حُرّاً فيه يُشكيني
كأنني في بلادي إن نزلتُ بها


نزلتُ منها ببيتٍ غيرِ مسكون
حتى متى أنا في البُلدان مغتربٌ


نوائبُ الدهرِ بالأنياب تُدميني
فتارةً في المواصي فوق مُوقَرَةٍ


وتارةً في الطوامي فوق مشحون(1)
كم أغرقَتْني الليالي في مصائبها


فَعُمتُ فيهنَّ من صبري بدُلْفين
أنا ابنُ دجلةَ معروفاً بها أدبي


وإن يك الماءُ منها ليس يُرويني
قد كنتُ بُلبلَها الغِرّيدَ أُنشِدها


أشجى الأناشيدِ في أشجى التلاحين
حيث الغصونُ أقلَّتني مُكلَّلةً


بالورد ما بين أزهارِ البساتين
فبينما كنتُ فيها صادحاً طَرِباً


أستنشق الطيبَ من نفح الرياحين
إذ حلَّ فيها غُرابٌ كان يُوحِشني


وكان تَنْعابُه بالبين يُؤذيني
حتى غدوتُ طريداً للغُراب بها


وما غدوتُ طريداً للشواهين
فطرتُ غيرَ مُبالٍ عند ذاك بما


تركتُ من نرجسٍ فيها ونَسْرين
ويلٌ لبغدادَ ممّا سوف تذكرهُ


عني وعنها الليالي في الدواوين
لقد سَقيتُ بفيض الدمعِ أربُعَها


على جوانب ودٍّ ليس يَسقيني
ما كنتُ أحسب أني مذ بكيتُ بها


قومي بكيتُ على من سوف يُبكيني
أفي المروءة أن يَعتزَّ جاهلُها


وأن أكون بها في قبضة الهُون ؟
وأن يعيش بها الطُّرطورُ ذا شَمَمٍ


وأن أُسامَ بعيشي جَدْعَ عِرْنيني ؟
تاللهِ ما كان هذا قطُّ من شِيَمي


ولا الحياةُ على النكراء من دِيني
ولستُ أبذل عِرضي كي أعيشَ بهِ


ولو تأدَّمتُ زَقُّوماً بغِسلين
أغنتْ خشونةُ عيشي في ذُرى شرفي


عَمّا أرى بخسيس العيشِ من لِين
عاهدتُ نفسيَ والأيامُ شاهدةٌ


ألا أقرَّ على جَوْر السلاطين
ولا أُصادقَ كذّاباً ولو مَلِكاً


ولا أُخالط إخوانَ الشياطين
أمّا الحياةُ فشيءٌ لا قرارَ لَهُ


يحيا بها المرءُ موقوتاً إلى حين
سِيّان عندي أجاء الموتُ مُخترِماً


من قبل عشرين أم من بعد تسعين
ما بالسنين يُقاس العمرُ عنديَ بَلْ


بما له في المعالي من تَحاسين
لو عشتُ ستين عاماً لاستعضتُ بها


ستين مكرمةً بل دون ستين
فإنما أطولُ الأعمارِ أجمعُها


للمكرمات من الأبكار والعُون
إن اللئيمَ دَفينٌ قبلَ مِيتتهِ


وما الكريمُ وإنْ أودى بمدفون
ما كنتُ أحسب بغداداً تُحلّئني(1)


عن ماء دجلتِها يوماً وتُظميني
حتى تقلّدَ فيها الأمرَ زِعنفةٌ


من الأناس بأخلاق السراحين
ما ضرّني غيرَ أني اليومَ من عربٍ


لا يغضبون لأمرٍ ليس يُرضيني
تاللهِ ما ضاع حقّي هكذا أبداً


لو كنتُ من عَجَمٍ صُهْب العثانين
علامَ أمكث في بغدادَ مُصطِبراً


على الضراعة في بحبوحة الهُون ؟
لأجعلنَّ إلى بيروتَ منتسَبي


لعلّ بيروتَ بعد اليوم تُؤويني
خابت ببغدادَ آمالٌ أُؤمّلها


فهل تخيب إذا استذرتْ بصِنّين ؟
فليت سوريةَ الوطفاءَ، مُزْنَتُها


عن العراق وعن واديه تُغنيني
قد كان في الشام للأيام مذ زمنٍ


ذنبٌ محتْه الليالي في فلسطين
إذ كان فيها «النشاشيبيُّ» يُسعفني(1)


وكنتُ فيها خليلاً للسكاكيني(2)
وكان فيها «ابنُ جبرٍ»(3) لا يُقصّر في


جبرِ انكسارِ غريب الدارِ مَحزون
إنْ كان في القدس لي صحبٌ غطارفةٌ


فكم ببيروتَ من غُرٍّ مَيامين
هي الأخلاقُ تنبت كالنباتِ


إذا سُقيتْ بماء المكْرُماتِ
تقوم إذا تعهّدها المربّي


على ساق الفضيلةِ مُثمرات
وتسمو للمكارم باتّساقٍ


كما اتّسقتْ أنابيبُ القناة
وتُنعش من صميم المجدِ رُوحاً


بأزهارٍ لها مُتضوّعات
ولم أرَ للخلائق من مَحلٍّ


يُهذّبها كحِضن الأمّهات
فحضنُ الأمِّ مدرسةٌ تسامتْ


بتربية البنين أو البنات
وأخلاقُ الوليدِ تُقاس حُسناً


بأخلاق النساءِ الوالدات
وليس ربيبُ عاليةِ المزايا


كمثل ربيبِ سافلةِ الصفات
وليس النبتُ ينبت في حنانٍ


كمثل النبتِ ينبت في الفلاة
فيا صدرَ الفتاةِ رحبتَ صدراً


فأنتَ مَقرُّ أسنى العاطفات
نراكَ إذا ضممتَ الطفلَ لَوْحاً


يفوق جميعَ ألواحِ الحياة
إذا استند الوليدُ عليكَ لاحت


تصاويرُ الحنانِ مُصوَّرات
لأخلاق الصبيِّ بكَ انعكاسٌ


كما انعكس الخيالُ على المراة
وما ضَرَبانُ قلبكَ غيرُ درسٍ


لتلقين الخصالِ الفاضلات
فأوّلُ درسِ تهذيبِ السجايا


يكون عليكَ يا صدرَ الفتاة
فكيف نظنُّ بالأبناء خيراً


إذا نشأوا بحضن الجاهلات ؟
وهل يُرجى لأطفالٍ كمالٌ


إذا ارتضعوا ثُديَّ الناقصات ؟
فما للأمهات جهلنَ حتى


أتَينَ بكلّ طيّاش الحَصاة(1) ؟
حَنَوْنَ على الرضيع بغير علمٍ


فضاع حُنُوُّ تلك المرضعات
«أأمَّ المؤمنين»(2) إليكِ نشكو


مصيبتَنا بجهل المؤمنات
فتلك مصيبةٌ يا أمُّ منها


«نكاد نغصُّ بالماءِ الفراتِ»
تَخِذْنا بعدكِ العاداتِ دِيناً


فأشقى المسلمون المسلمات
فقد سلكوا بهنَّ سبيلَ خُسْرٍ


وصدّوهنَّ عن سُبُل الحياة
بحيث لَزِمْنَ قعرَ البيتِ حتى


نزلنَ به بمنزلةِ الأداة
وعَدُّوهنَّ أضعفَ من ذبابٍ


بلا جنحٍ وأهونَ من شَذاة(1)
وقالوا: شِرعةُ الإسلامِ تقضي


بتفضيل «الذين على اللواتي»
وقالوا إنّ معنى العلمِ شيءٌ


تضيق به صدورُ الغانيات
وقالوا الجاهلاتُ أعفُّ نفساً


عن الفَحْشا من المتعلّمات
لقد كذبوا على الإسلام كِذْباً


تزول الشُّمُّ منه مُزلزلات
أليس العلمُ في الإسلام فرضاً


على أبنائه وعلى البنات
وكانت أمُّنا في العلمِ بَحْراً


تحلّ لسائليها المشكلات
وعلَّمها النبيُّ أجلَّ علمٍ


فكانت من أجلّ العالمات
لذا قال ارجعوا أبداً إليها


بثُلثَيْ دينكم ذي البيّنات
وكان العلمُ تلقيناً فأمسى


يُحصَّل بانتياب الـمَدْرسات
وبالتقرير من كُتبٍ ضِخامٍ


وبالقلم الممَدِّ من الدواة
ألم ترَ في الحسان الغِيدِ قَبْلاً


أوانسَ كاتباتٍ شاعرات ؟
وقد كانت نساءُ القومِ قِدْماً


يَرُحْنَ إلى الحروب مع الغُزاة
يكنَّ لهم على الأعداء عوناً


ويضْمِدْنَ الجروحَ الداميات
وكم منهنّ من أُسِرتْ وذاقتْ


عذابَ الهُون في أَسْر العُداة
فماذا اليومَ ضرَّ لو التفتْنا


إلى أسلافنا بعضَ التفات ؟
فهم ساروا بنهج هُدًى وسرنا


بمنهاج التفرُّقِ والشتات
نرى جهلَ الفتاةِ لها عفافاً


كأن الجهلَ حصنٌ للفتاة
ونحتقر الحلائلَ لا لجُرمٍ


فنُؤذيهنّ أنواعَ الأَذاة
ونُلزمهنَّ قعْرَ البيتِ قهراً


ونحسبهنَّ فيه من الهَنات
لئِنْ وأدوا البنات فقد قبرنا


جميعَ نسائنا قبل الممات
حجَبْناهنَّ عن طلب المعالي


فعِشنَ بجهلهنّ مُهتَّكات
ولو عدمتْ طباعُ القومِ لؤماً


لما غدتِ النساءُ محجَّبات
وتهذيبُ الرجالِ أجلُّ شرطٍ


لجعل نسائهم مُتهذِّبات
وما ضرَّ العفيفةَ كشفُ وجهٍ


بدا بين الأعفّاءِ الأُباة
فِدًى لخلائق الأعرابِ نفسي


وإنْ وُصِفوا لدينا بالجُفاة
فكم برزتْ بحبِّهمُ الغواني


حواسِرَ غيرَ ما مُتَريِّبات
وكم خِشْفٍ بمربعهم وظَبْيٍ


يمرّ مع الجَداية والمهاة
ولولا الجهلُ ثَمَّ لقلتُ مرحى


لمن ألِفوا البداوةَ في الفلاة

No comments: