Monday, November 29, 2004

الموت بين الاشواك والازهار ............. حسب الله يحيى


:لم يكن وقت الظهيرة في ذلك اليوم بهيجا كما جرت اوقات الظهيرة في آذار بل كانت السماء غاضبة، عاصفة ترابية، تركت ملامح بلون برتقالي خانق.. مصحوب بزخات مطر في وقت تطلق فيه صفارات الانذار.. ترافقها اصوات رصاص من اماكن مختلفة.
لم اكن اعرف سبيلا لانقاذ حياتي من الربو الذي يخنق انفاسي او المطر الذي جعل ملابسي رطبة وقد تحول التراب فوقها الى اوحال ـ كنت اشبه بناقلة عسكرية تتخفى من رؤية العدو ـ او اجد قبوا يقيني ما قد يحدث.. او اصل سريعا الى بيتي لمعرفة ما اعدت له عائلتي من سبل قد يقيها قدرا من شرارة الحرب.وفجأة.. سمعت صوتا مدويا حولني الى أذن متسعة تبحث عن خلاصها من فاجعة طالته، او هي على تماس مباشر معه وفي افضل الاحوال قريبة منه.دوى صاروخ يرتطم بالارض، يخترقها وينشر الرعب في المكان ويتحول المكان الى نيران واصوات صرخات وسقوط مبان وزجاج.وقبل ان اتبين نفسي او يتبينني احد دوى صوت صاروخ اخر في الجانب المقابل للشارع.. اعقبته اصوات متداخلة مختلطة بالنيران والامطار والعواصف الترابية.. لم اكن اعرف الى اين اتجه، وهناك كثرة من الناس يركضون في كل الاتجاهات يصطدمون بي او اصطدم بهم. لا اعرف ان كنت قد تسببت في أذاهم او كانوا سببا في ايذائي.لكن مشهدا مثيرا جعلني انسى من اكون واين اتجه وما هي سبل انقاذ نفسي فقد كان المشهد يثير الرعب والدهشة والصدمة.. والصرخة المرافقة للمشهد كانت غريبة، موجعة، خائفة.. على نحو يمتص معه كل الاسى المحيط به.كنت اراه.. شيخا، بثوب متهرئ.. ووجهه اكله الرعب وقد تحول كلا الى صرخة.. صرخة تنطلق من غور سحيق.. ويدان تحضنان بعضهما، تمسكان موقع البطن.ـ انقذوني.. امعائي تسقط.. امعائي، امسكوها.نسيت كل ما تبقى منه ورحت اركض اليه.. اساعده على الامساك بأحشائه.. لم يكن هناك ما يشير الى ان الرجل قد فقد امعاءه.. لكنه يمسك امعاء تقطر دما وقطرات من المطر وبقع من الاوحال.. امسكت بأمعائه، رفعتها فوجئت بانها تنفصل عنه والرجل واقف ينظرها كما لو انه يتأملها مودعا..امسكت الامعاء بكف وبالكف الثانية تلمست بطنه.. قفز، انتابه خوف وألم.. لم اكن اعرف ان كان فرحا ام حزينا وانا اطمئن الرجل قائلا:ـ امعاؤك بخير. اطمئندهش من كلامي:ـ احشائي بين يديك.. كيف اطمئن؟امسكت بيده.. ألححت.. قلت:ـ المس.. هذه بطنك احشاؤك ما زالت موجودة.ود لو يصدقني.. وطاب لي ودي عندما يصدقني.. وراح يساعدني على الامساك بالامعاء التي كانت تنبض سريعا، حارة، دامية، موحلة، ماطرة من دم وماء.. ركضنا معا نبحث عن صاحبها.. لهذه الامعاء صاحب، ليس من المعقول ان السماء امطرت بين ايدينا امعاء لا تعود لأحد..توجهنا الى سيارة تحترق، جثة تحترق.. تهرب من النيران وتهمد وقد طالتها الاوحال والمطر والسماء البرتقالية الزاحفة الى لون مماثل للنيران..قلبنا السيارة.. كان هناك جمع من الناس يساعدنا وجمع اخر يرقبنا ويخشى ان يتقدم.. حذرا من صاروخ اخر قد يلقى في الزمان والمكان..اختلطت صرخاتنا بأصوات سيارات الاسعاف والاطفاء والنجدة.. ونحيب النساء صرحات متشابكة تخاصم بعضها صرخات صدئة، موجعة، حذرة، خائفة..و.. توقفت نظراتي ادركت انها تيبست وليس بوسعها ان ترى.. ترى قلبا، قلبا لأنسان ينبض.. هذه الاوردة والشرايين تنبض هذا الشفاف يتمزق هذا الدم الساخن يعلن النجار عن حرارته في هذه الظهيرة الآذارية الموحشة.نسيت الاحشاء في يدي.. احتضنها فوق صدري في يد كما لو كنت احتضن مولودا يفتح عينيه للنور توا، او كيس فاكهة يلذ لي ان يفرح بها ابنائي..امسكت بالقلب جعلت اغطيه بقميصي، كما لو كنت اخبئ كنزا، ورحت اركض باتجاهات شتى لا اعلمها واصرخ بطريقة لا افهمها.. صار الناس يركضون حولي.. صرت اسمعهم يقولون:ـ جن الرجل.. هذا الرجل اصيب بالجنون.هل كان هذا الرجل المجنون انا.. هل كان هذا الشيء الذي احتضنه قلبي ام قلب سواي، هل كانت هذه الاحشاء تعود لي ام لغيري.. وهذه الدماء.. هل كنت انزفها.. كم فقدت منها.. وانا الذي اخاف قطرة دم دجاجة. تهرب مني، مستفيدة من الرجل الذي يحن على حياتها.. على حياة غصن يقطع وينزف من حليب البراءة..ووجدت نفسي محاطا بأياد كثيرة ووجوه حائرة.. بعضها خشن قد من غضب، بعضها يذوب من رقته، بعضها يختنق من خوف ودهشة.. شاحب مثل ليمونة.. بعضها وجوه لم اتبينها.. وقد ضيعت ملامحها بين الدم والوحل والمطر.. اختلطت في وجهي كل الوجوه.. ورحت احدق في اشياء كثيرة.. تبصرني ولا ابصرها.. هذه النيران والدخان فأين الرماد.هذا الرماد، هذه القطع الفحمية، هذه الاشياء الحمراء، البرتقالية، السوداء.. هذه السيارات، الارقام، واجهات المحلات، وجه رجل ملقى وفي فمه لقمة.. السواد.. السواد.. سواد العباءات النسوية، الوجوه، سواد الاعلام الحسينية.. ذلك ان اربعينية الحسين لما تحل بعد.. ولا بعد.. لبعد..اين اصل الاشياء الدائرة حولي كلها.. هل قطعت، اقتلعت من الجذر.. حتى الجذر حين يقتلع له اثر.. فأين اثري، اين الانسان الذي في، من يدلني علي، من علي يؤشر يومئ من اكون من اين كنت..؟اين الامعاء التي في يدي، في يد رجل طمأنته، وفي قلب لا يطمأنني.. اين الجنون الذي في، اين العقل الذي في.. امعائي موجودة.. اين افتقدت امعاء الرجل ماذا سأقول عندما يسألني عنها لقد ائتمنها لدي.. هل اخون امانة احد..؟اين ضيعت قلبا نابضا كان يملأ علي كفي.. كفاي خائنان كفاي شريران لابد من قطعهما حتى يكونا عبرة لبقية اعضائي..؟ صرخت بكيت من صراخي بكي مني بكائي.. تقطرت السماء من دموعي كانت دموعي موحلة.. وحلي مقدس.. منه خلقت، اليه اعود.. آذار ينبت ازهاره، يفوح عطره منه.. منه هذا السواد الحسني، منه هذه (الحواسم) منه هذه (الدهشة) منه هذا (الارهاب) منه هذا (الجهاد).كل يضحك مني.. كل يأخذ مني.. كل يقطف مني ازهار حياتي.. كل يدوس بغلظة على هذا الانسان الذي بين يدي احشاء وقلبا.. ودما، مطرا، وحلا، عاصفة ترابية.. آذاري الدم.. حسيني المحتوى.. آفل كما لولم اكن.كما لو انني جبلت من جنون هذا الرجل الذي في..هذا الانسان الذي تصهره عاصفة آذارية شاحبة.. تدور، تدور، تركض العمر كله.. ثم تطحن سريعا بين (الحواسم) و(الدهشة) تموت.. تموت بين الاشواك والازهار.. تموت.. بين اشواك قاسية وازهار صناعية زائفة..
...........
عن جريدة الصباح العراقية

No comments: