آرثر جون آربري ترجمة : سعيد الغانمي
حياته
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النّفري شخصية غامضة منتهى الغموض في تاريخ التصوف الإسلامي. ويبدو أنه ارتفع نجمه في النصف الأول من القرن الرابع الهجري. وقد توفي, استنادا إلى ما يقوله حاجي خليفة, في سنة 354 هـ. ويحظى هذا التاريخ لوفاته ببعض التأكيد من بيانات ترد في مخطوطة (غوطة) ومخطوطة القاهرة, عن مخل فاته الأدبي ة, فتشير بعض الكتابات إلى سنتي 352 و 353هـ, لكن هذا سرعان ما يبطل بذكر سنوات أخرى هي 359 و 360 و 361هـ فيما يخص أجزاء أخرى. وحتى يتم العثور على دليل آخر, يستحيل في الوقت الحاضر الجزم بحكم نهائي حول ما ذكره حاجي خليفة.
لسنا نعرف سوى القليل عن حياة النّفري, وهذا القليل مستمد بمجمله من أقوال شارحه عفيف الدين التلمساني (المتوف ى سنة 096 ه-). وها نحن نقتبس أقواله كاملة, اعتمادا على مخطوطة مكتب الهند:
(1) الورقة: 72 ب: «هذا مما يدل, على ما قيل, أن الذي ألف هذه المواقف هو ولد ولد الشيخ النّفري, رحمه الله, وليس هو الشيخ نفسه. إذ كان الشيخ لم يؤلف كتابا, إن ما كان يكتب هذه التنز لات في جزازات: [جذاذات] أوراق, نقلت بعده. فإنه كان مولها في النشرة المصرية: مؤلها لا يقيم بأرض, ولا يتعر ف إلى أحد.و ذكر إنه توف ي بأرض مصر في بعض قراها. والله أعلم بجلية أمره» انظر: التلمساني: شرح مواقف النّفري, نشرة: د. جمال المرزوقي, القاهرة, 1997, ص 259.
( 2 ) الورقة: 111 ب: «وإن ما أوجب هذا ما ن قل من أن الذي رتب هذه المواقف وأل ف ترتيبها, هو ابن بنت الشيخ, ولم يكن الشيخ هو الذي رتبها. ولو رتبها الشيخ لكانت على أحسن من هذا النظام,بحيث لا يكون شيء إلا مع ما يناسبه» ] ط القاهرة, ص 293.
( 3 ) الورقة: 149 بـ: «هذا يدل على أن الذي ألف هذه المواقف لم يكن هو النّفري, بل هو بعض أحبابه, وقيل: هو ابن بنته. فلا جرم لم يأت مرتبا ترتيب المقامات في نفس الأمر» ] ط القاهرة, ص 522.
سنهتم بسؤال الإعداد النهائي لمخطوطة «المواقف» لاحقا, أما هنا فحسبنا أن ننبه إلى احتمال كون النّفري متصوفا من نمط عام إلى حد ما, غير مكترث بأهم ي ته الخاصة, وغير مكترث حتى بما ستصير إليه تنزلاته الإلهية, سائحا وكاتبا مترسلا, لكنه كان, قبل كل شيء مفكرا أصيلا, مت قدا, ذا قناعة واضحة بأصالة تجربته.
اسمه
محمد بن عبد الجبار بن الحسن, على هذا تتفق جميع المصادر. لكن نسبته موضع خلاف, ومن المرجح أن مصدر هذا الخلاف وقوع تحريف وخطأ ارتكبه بعض النساخ, فن قل هذا التحريف, وظل ينسخ حتى أخذ به بعضهم.
وهذه هي صيغ كتابة نسبة المؤل ف: النّفري, النّفزي, النّفزي. ويكشف الفحص الدقيق لصفحة عنوان مخطوطة (غوطة) عن احتمال أن تكون الحركة أو النقطة الموضوعة على الحرف الأخير من النسبة مجرد علامة تزويق وتجميل للخط, في الأصل, فهي نقطة أصغر بكثير وأخفى, مثلا, من النقطة الموضوعة على الحرف الذي قبله. ولعل صفحة هذا العنوان هي مصدر جميع الأخطاء اللاحقة. فقد وقع ناسخ مخطوطة (ب) ]في مكتبة بودليان[ ضحية هذا الخطأ في عنوانه. وواصل, هو وناسخ مخطوطة (ت) ]في مكتبة بودليان أيضا [ هذا الخطأ في النص, ولكن في مناسبة واحدة فقط. وتقرأ مخطوطتا الهند والقاهرة أيضا نسبته على أنها:
النّفزي, أما المخطوطتان الأخريان, وهما (ل) ]في ليدن[ و(م) ]في بودليان[ فليس فيهما عنوان, وهما تكتبان في العادة: النّفري, في داخل النص.
يذكر محيي الدين بن العربي اسم المؤلف أربع مرات في كتابه «الفتوحات المكية» ويرد فيه دائما بصيغة: النّفري. وعلى هذه الصيغة يتابعه كتاب عرب كثيرون, مثل الشعراني وحاجي خليفة والقاشاني والذهبي والزبيدي. وعلى حد علمي, لم يتحدث أحد عن النّفزي سوى كاتب مخطوطة برلين (3218), وليس من شك في أن السبب في ذلك لا يخرج عن السبب لدى ناسخي المخطوطات (ب) و(أ) و(ق) و(ت).
و من بين الدارسين الغربيي ن, كان «بروكلمان» أو ل من آثر الاستقرار على صيغة النّفري, وإن كان يذكر صيغة النّفزي كبديل محتمل. وقد حذا حذوه «مرغليوث», الذي رجع إلى مخطوطات أ كسفورد, ولم يعترض «نكلسون» على ذلك. لكن «ماسنيون» أحيا صيغة النّفزي, لذلك لابد من تسوية هذا الخلاف القديم مرة واحدة وإلى الأبد.
ليس من شك في أن نسبة النّفري تشير إلى قرية «نفّر» في العراق. هذا ما ينص عليه الجغرافي ياقوت الحموي, والمعجمي الزبيدي, ويعتمد هذا الأخير في هذه النقطة على ابن يعقوب مصدرا له. وعن هذه القرية يقول ياقوت الحموي ما يلي:
»نفّر: بكسر أوله, وتشديد ثانيه, وراء: بلد أو قرية على نهر النرس من بلاد الفرس, عن الخطيب, فإن كان عنى إنه من بلاد الفرس قديما جاز, فأم ا الآن فهو من نواحي بابل بأرض الكوفة. قال أبو المنذر: إنما سمي نفّر نفرأ لأن نمرود بن كنعان, صاحب النسور, حين أراد أن يصعد إلى الجبال فلم يقدر على ذلك هبطت النسور به على ن ف ر, فنفرت منه الجبال, وهي جبال كانت بها, فسقط بعضها بفارس فرقا من الله, فظن ت أن ها أمر من السماء نزل بها. فلذلك قوله عز وجل: «و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال» (ابراهيم: 46). وقال أبو سعد السمعاني: نفر: من أعمال البصرة. ولا يصح قول الوليد بن هشام الفخذمي, وكان من أبناء العجم: حدثني أبي عن جدي قال: نفر: مدينة بابل, وطيسفون: مدينة المدائن العتيقة, والأبلة من أعمال الهند. وذكر أحمد بن محمد الهمذاني, قال: نفر: كانت من أعمال كسكر, ثم دخلت في أعمال البصرة. والصحيح أنها من أعمال الكوفة. وقد ن س ب إليها قوم من الكتاب الأجلاء وغيرهم.
قال عبيد الله بن الحر:
لقد لقي المرء التميمي خيلنا
فلاقى طعانا صادقا عند نفرا
و ضربا يزيل الهام عن سكناته
فما إن ترى إلا صريعا ومدبرا.
و تذكر مراجع عربية مهمة أخرى «نف ر» في المواطن التالية:
الطبري: التاريخ, ج 1, 747 -9, 3423 - 4, ج 2, 929.
ابن الأثير: الكامل, تحقيق: تورنبرغ, ج 1,244, ج 3, 307, ج 4, 332.
البكري: المسالك والممالك, تحقيق: وستنفيلد, 597.
و إلى جانب هذا الدليل, يمكن أن نضيف بينة أخرى من تذييل مخطوطة (ج), التي تعزو نسبة إضافية للمؤلف هي: العراقي. فإن لم يكن هذا كافيا, فإننا نقرأ الحكم المثير الآتي لدى التلمساني في شرحه للموقف الأربعين (مخطوطة مكتب الهند, الورقة: 97 ب):
؛ثم أخبره أنه الآن ينصرف من بين يديه, وهو قوله: (هو ذا تنصرف). ولفظة (هو ذا) لفظة عراقية ] النشرة المصرية وردت: لفظة عواقبه, ولا معنى لها, انظر: ص 349] . ولا عجب أن يكتب عراقي باللهجة العراقي ة, مهما بلغت كتاباته من درجات الاستلهام والتنزل.
و أخيرا هناك دليل؛المسيحيين الشرقيين» الذي يعطينا المعلومات التالية عن ن ف ر Naphar أي ن ف ر في ج 2, 1166:
»نفرا أو نفار أو نفر أو نيفر أو نيفار مدينة أسقفية أو إقليم كاثوليكي, ولكن ليس من السهل معرفة موقعها على وجه الدقة. ويمكن العثور على نفرايا والنيل في أكثر من موقع, وكذلك النيل والنعمانية وبدرايا. وبدرايا, التي هي «ديركوني» السريانية, و»دوركينا» العربية, مدينة قريبة من سلوقيا. وتقع النعمانية بين بغداد وواسط, ومن الواضح أن نفر والنيل تقعان في المنطقة ذاتها».[النص باللاتينية.]
وبخصوص النيل يكتب ياقوت الحموي ما يلي: «النيل اسم عدد من المواضع, أحدها ب ليدة في سواد الكوفة, قرب حلة بني مزيد, يخترقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير, حفره الحجاج بن يوسف, وسماه بنيل مصر». وقد ورد ذكر النيل مرتين في مخطوطة (ج) ليشير في الموضعين إلى أن بعض الأجزاء من مؤلفات النف ري قد كتبت هناك. وهذا دليل إثبات من درجة عالية جد ا.
لقد أ عيد اكتشاف نف ر في الأزمنة الحديثة. وأفلحت بعثة استكشافية أرسلتها جامعة بنسلفانيا بالقيام بتنقيبات مهمة في الموقع الذي عي ن فيه المكان تقليديا, ونشر تقرير عن عمل البعثة عام 1897 بقلم ج. ب. بيترز. وقدم لنا التقرير وصفا ممتازا للحالة الحاضرة لنفر, وفيما يلي الفقرة المهمة التي تحمل موضوع نقاشنا:
؛تبي ن البقايا اليهودية الغزيرة من نفر( Ni ppur) خلال الحقب البارتية والساسانية والعربية القديمة الدور الذي لعبه هؤلاء في هذا المكان, ولم نجد أي أثر للمسيحيين, لكن المؤرخين العرب, كما ينقل راولنسن, يذكرون أن نفر كانت أسقفية مسيحية في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي».
وكان راولنسن قد طابق مطابقة تامة بين نفر ونيبور منذ زمن طويل حين كتب قائلا:
»في نفر الحديثة قد نتعرف على نوفير (Nopher التلمودية, ونيبر Nipur ) الآشورية التي هي نفرو(Nifru = نمرود) وقد حصل إبدال في حرفيها الأخيرين. وكانت شهرة نمرود ذائعة دائما في البلاد التي وقعت تحت نفوذه. ويسجل العرب عددا من الأحاديث المتميزة التي لعب فيها دورا بارزا. وليس من شك في أن إطلاق الفلكيين العرب اسم «الجبار» أو «العملاق» على كوكبة «أوريون» إنما جاء من باب تضخيمه وتأليهه».
ولم تسفر محاولات مطابقة أخرى عن جدوى كبيرة. لقد رغب راولنسن أن يجد في «نفر» مدينة «بيبيلي» الأغر يقية التي ذكرها بطليموس, وكان ذلك مجرد تخمين عشوائي. وطابق أيضا بينها وبين «كلنة» المذكورة في (سفر التكوين 10:10), غير أن هذه النتيجة أهملت من لدن العموم في الوقت الحاضر. ويقول راولنسن إن نفر هي نفسها «عفار» أو «أوار» لدى البابليين.
يبقى إذن أن نستخلص أن نفر هي المدينة البابلية المهمة «نيبر» بعينها, التي سقطت في أزمنة النحس, وكان قد حكمها حكام متتابعون, وظلت مكانتها تتناقص بالتدريج, حتى اختفت, سواء أكان ذلك نتيجة الجدب وحده أم نتيجة كارثة طبيعية, من ذاكرة الناس, ليستعيدها بعد قرون متطاولة مغامرون جاءوا من المحيط الأطلسي. وهكذا هي مصائر الناس والامبراطوريات, ترتبط ارتباطا حميما وتتشرذم تشرذما مطلقا.
هذه هي نفر إذن. ولابد أن النفري, إذا سل منا أنه كان من أهلها أو اتصل بها على نحو ما, قد استلهم من وحي تاريخها الغريب, المنقسم بين مجدها الغابر ووحشتها الحاضرة, إذ لم تعد توجد سهولها التي كانت تضج بالمسير المنضبط للجيوش الشبحية ولم تعد معابدها المهدمة مسرحا لرقصات لا يتذكرها الآن أحد, ولم تعد صيحات أهل أسواقها وخفة سكانها تعكر صفو شوارعها الصامتة.وحين كانت النجوم تسطع خفيضة في الليل, ويعيد حزام «أوريون» الوهاج إلى البال أساطير العملاق الذي أوغل في طموحه, كان هذا السائح المتوحد يجد القوة والعزاء في رؤية الله الواحد الحق الذي يعوض حبه عن كل محبوب فان يضمه هذا العالم. فإلى ذكرى تقواه وإخلاصه الذي مازال حيا, نحن الذين عشنا بعد مرور ألف سنة على وفاته, بعد أن بحثنا في مكتبات أوروبا وأفريقيا ن هدي الآن هذه الطبعة من كتاباته وترجماتها.
كتاباته
استنادا إلى شارحه التلمساني الذي أتينا على ذكر أقواله كاملة, لم يكن النف ري هو المسؤول عن ترتيب «المواقف» ووضعها بهذا التأليف. وقد كرر التلمساني هذا التأكيد ثلاث مرات في سياق شرحه: وبرغم أن هذا الحكم يصدر في الحالات الثلاث لتوضيح وجهة نظر الشارح بأن المقاطع هناك منتزعة من سياقاتها الصحيحة, فإن تكراره يدل بالتأكيد على صدق حكمه. وفي الحقيقة حتى لو لم يصدر هذا القول عن التلمساني, فإننا نجد أنفسنا مسوقين إلى الاعتقاد بأن العمل, كما وصل لنا, لا ينتمي إلى النف ري على نحو تام, بل إن شكله الأدبي يدل على تدخل يد أخرى فيه. ولم يكن من النادر أن يتدخل أتباع الشيوخ الممي زين لتحرير كتابات أشياخهم بعد وفاتهم. ومن المستحيل البت ما إذا كان ابن النفري أو حفيده هو المسؤول في هذه الحالة عن تحرير كتاباته من دون دليل آخر, ولكن من المهم أن نتذكر دائما أن النف ري لم يكلف نفسه عناء جمع كتاباته.
وبالإضافة إلى «المواقف» لدينا كتابات أخرى منسوبة للنفري. ومن بين هذه الكتابات, فإن أكبرها وأهمها هو كتاب «المخاطبات» الذي يرد في ثلاث مخطوطات فقط, هي: (ج) و(ق) و (م). وتتكو ن هذه الكتابات من سلسلة من الإستلهامات والتنزلات المشابهة في مادتها ل-؛المواقف», ولكنها تبدأ بعبارة: «يا عبدي», بدلا من عبارة: «أوقفني وقال لي».و لا يحيط الشك بصحة نسبتها له, إذ يشير إليها النفري نفسه في الموقفين: 63, الفقرة 11, و66 الفقرة 1. ولا يمكن المبالغة في تقدير أهمية هذه المادة الإضافي ة.فإذا كانت «المواقف» تحمل آثارا واضحة على بصمة تنقيح أدبي, فإن لـ «المخاطبات» مظهرا لا تخطئه العين من صحة الإسناد والبدائي ة. ولم تتم محاولة وضع ترتيب لهما, بالرغم من أن العناوين في مخطوطة (م) قد أعطيت بصورة: «مخاطبات الأولياء», وهذا ما يذكرنا بـ «المواقف».
وتحتوي المخطوطات (ج) و(ق) و(م) على زيادة مقحمة في نص المواقف مباشرة بعد الموقف 63, بعنوان: «مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت». وأخذا بظواهر الأشياء من المستبعد أن تصح نسبتها إليه, فهي عن موضوعة المهدي, وبالرغم من أنها تنسجم في المحتوى والأسلوب مع قطعتين أخريين في نص المواقف فإن من السهل الافتراض بأن القطع الثلاث زيادات أقحمتها يد أخرى, ولم تكن في نص النفري الأصيل. ويقوى هذا الافتراض بكون القطعتين في المواقف تقطعان, حيث وردتا, الترتيب الأدبي للنص على نحو لا مبرر له. ولم يكن النفري معنيا بدعاوى المهدوية, لأن ملكوته لم يكن في هذا العالم, بل في العالم الآخر.
وتقدم لنا المخطوطتان (ج) و(م) بعد الموقف 75 موقفا إضافي ا لا نجده في بقية المخطوطات, وهو: «موقف الإدراك». ولا يبدو أن هناك داعيا للشك في صحة نسبته, إذ ليس فيه شيء غريب على النفري. وقد أضفنا هذا الموقف والزيادة المقحمة التي أشرنا إليها في المقطع السابق في آخر النص العربي.
يبقى أن نناقش عنوان الكتاب. سنتعر ض فيما بعد لمعنى مصطلح الموقف, غير أن من المفيد أن نلاحظ بعض التغييرات الطفيفة في عنوان الكتاب. فالمخطوطات على العموم تسميه «كتاب المواقف» فقط, باستثناء مخطوطة (م) التي تسم يه «كتاب المواقف مع الحق على التصوف». ويميل الكتاب العرب على العموم إلى إطلاق هذه التسمية الوجيزة عليه, باستثناء ابن العربي الذي يسميه في موضع: «كتاب المواقف والقول». ونحن نؤثر أن نتابع ما درج عليه كثرة الكتاب العرب ونسم يه: «كتاب المواقف».
شهادات عنه
ابن عربي
جاء ذكر النفري أو أحيل إليه خمس مر ات في «الفتوحات المكي ة» كالآتي:
1- «أم ا اعتبار الآن الفاصل بين الوقتين, فهو المعنى الفاصل بين الاسمين, اللذين لا ي فهم من كل واحد منهما اشتراك, فظهر حكم كل اسم منهما على الانفراد. وهو حد الواقف عندنا: فإن الإنسان السالك إذا انتقل من مقام قد احتكمه وحصله تخل قا وخلقا وذوقا, إلى مقام آخر يريد تحصيله أيضا يوقف بين المقامين: عن حكم المقام الذي انتقل عنه, وعن حكم المقام الذي يريد الانتقال إليه, يعرف في تلك الوقفة بين المقامين, وهو كالآن بين الزمانين, آداب المقام الذي ينتقل إليه, وما ينبغي أن يعام ل به الحق. فإذا أ بين له عنه, دخل في حكم المقام الذي انتقل إليه على علم... وقد بي ن ذلك محمد بن عبد الجبار النف ري في كتابه الذي سم اه ب- «المواقف والقول» وقفت على أكثره. وهو كتاب شريف يحوي على علوم آداب المقامات. يقول في ترجمة الموقف اسم الموقف. يقول في انتقاله إلى «موقف العلم» _ مثلا _ وهو من جملة مواقفه في ذلك الكتاب, فقال: موقف العلم, ثم قال: أوقفني في موقف العلم, وقال لي: يا عبدي, لا تأتمر للعلم, ولا خلقتك لتدل على سواي...إلى أن ينتهي إلى جميع ما يوقفه الحق عليه. فإذا عرف حينئذ, يدخل إلى ذلك المقام, وهو يعرف كيف يتأدب مع الحق في ذلك المقام...فهذا هو الآن الذي بين الصلاتين»
(طبعة القاهرة, 1293,ج1, ص505, ط دار إحياء التراث العربي, بيروت,ج1, ص486).
2- «وأما من اعتبر المرض بالميل, فهو المذهب الذي ينطلق عليه اسم مرض, وهو مذهب محمد بن عبد الجبّار النف ري, صاحب المواقف من رجال الله» (طبعة بولاق, ج1,ص771,ط بيروت,ج1, ص739).
3- «والواقفية أرباب المواقف, مثل محمّد بن عبد الجبار النفّري, وأبي يزيد البسطامي. قال ] واصفا التوبة[: هي غيبية, آثارها حسية» (ط بولاق, ج2, ص187, ط إحياء, ج2, ص139).
4- «واعلم أنه ما من منزل من المنازل, ولا منازلة من المنازلات, ولا مقام من المقامات, ولا حال من الحالات, إلا وبينهما برزخ يقف العبد فيه يسمى: الموقف. وهو الذي تكلم فيه صاحب «المواقف» محمد بن عبد الجبار النفّري - رحمه الله - في كتابه المسمى بـ «المواقف», الذي يقول فيه: أوقفني الحق في موقف كذا. فذلك الاسم الذي يضيفه إليه هو المنزل الذي ينتقل إليه أو الحال أو المنازلة, إلا قوله: أوقفني في موقف وراء المواقف.فذلك الموقف م سم ى بغير اسم ما ينتقل إليه. وهو الموقف الذي لا يكون بعده ما يناسب الأول. وهو عندما يريد الحق أن ينقله من المقام إلى الحال, ومن الحال إلى المقام, ومن المقام إلى المنزل, ومن المنزل إلى المنازلات, أو من المنازلات إلى المقام.
وفائدة هذه المواقف أن العبد إذا أراد الحق أن ينقله من شيء إلى شيء يوقفه ما بين ما ينتقل عنه وبين ما ينتقل إليه, فيعطيه آداب ما ينتقل إليه, ويعل مه كيف يتأدب بما يستحقه من ذلك الأمر الذي يستقبله. فإن للحق آدابا لكل منزل ومقام وحال ومنازلة, إن لم يلزم الآداب الإلهية العبد فيها, وإلا ط رد. وهو أن يجري فيها على ما يريده الحق من الظهور بتجل يه في ذلك الأمر أو الحضرة من الإنكار أو التعريف. فيعامل الحق بآداب ما تستحق ه. وقد ورد الخبر الصحيح في ذلك في تجل يه سبحانه في موطن التلبيس, وهو تجل يه في غير صور الاعتقادات, فلا يبقى أحد يقبله, ولا يقربه, بل يقولون إذا قال لهم: أنا ربكم: نعوذ بالله منك. فالعارف في ذلك المقام يعرفه. غير أنه قد علم منه, بما أعلمه, أنه لا يريد أن يعرفه في تلك الحضرة, من كان هنا مقيّد المعرفة بصورة خاصة يعبده فيها. فمن أدب العارف أن يوافقهم في الإنكار, ولكن لا يتلف ظ بما تلفظوا به من الاستعاذة منه, فإنه يعرفه. فإذا قال لهم الحق في تلك الحضرة, عند تلك النظرة: هل كان بينكم وبينه علامة تعرفونه بها ? فيقولون: نعم. فيتحول لهم سبحانه في تلك العلامة, مع اختلاف العلامات. فإذا رأوها, وهي الصورة التي كانوا يعبدونه فيها, حينئذ اعترفوا به. ووافقهم العارف بذلك في اعترافهم, أدبا منه مع الله وحقيقة, وأقر له بما أقرت الجماعة.
فهذه فائدة علم المواقف. وما ثم منزل ولا مقام _ كما قلنا _ إلا وبينهما موقف, إلا منزلان أو حضرتان أو مقامان أو حالان أو منازلتان ]الصحيح في كل هذه الحالات الاستثناء بالنصب: منزلين... إلخ] كيف شئت قل, ليس بينهما موقف. وسبب ذلك إنه أمر واحد, غير أنه يتغير على السالك حاله فيه, فيتخيل أنه قد انتقل إلى منزل آخر, أو حضرة أخرى, فيحار لكونه لم ير الحق أوقفه, والتغيير عنده حاصل, فلا يدري هل ذلك التغير الذي ظهر فيه هو من انتقاله في المنزل, أو انتقاله عنه. فإن كان هنالك عارف بالأمر عرفه, وإن لم يكن له أستاذ بقي التلبيس. فإنه من شأن هذا الأمر أن لا يوقفه الحق, كما فعل معه فيما تقدم, وكما يفعل معه فيما يستقبل. فيخاف السالك من سوء الأدب في الحال الذي يظهر عليه, هل يعامله بالأدب المتقدم, أو له أدب آخر ? وهذا لمن أوقفه الحق من السالكين.
فإذا لم يوقفه الحق في موقف من هذه المواقف, ولم يعطه الفصل بين ما ينتقل إليه وعنه, كان عنده الانتقالات في نفس المنزل الذي هو فيه. فإنه ما ثم عند صاحب هذا الذوق إلا أمر واحد, تكون فيه الانتقالات, وهو كان حال المنذري, صاحب «المقامات», وعليها بنى كتابه المعروف بـ «المقامات», وأوصلها إلى مائة مقام في مقام واحد, وهو المحب ة. فمثل هذا لا يقف ولا يتحير, ولكن يفوته علم جليل من العلم بالله وصفاته المختصة بما ينتقل إليه, فلا يعرف المناسبات من جانب الحق إلى هذا المنزل. فيكون عنده علم إجمال, قد تضم نه الأمر الأول عند دخوله إلى هذه الحضرات. ويكون علم صاحب المواقف علم تفصيل, ولكن يعفى عنه ما يفوته من الآداب, إذا لم تقع منه, وتجهل فيه, ولا يؤثر في حاله, بل يعطي الأمور على ما ينبغي, ولكن لا يتنزل منزلة الواقف. ولا يعرف ما فاته, فيعر فه الواقف, وهو لا يعرف الواقف.
فلهذا المنزل الذي نحن فيه موقف يجهل, بل يحار, فيه صاحب المواقف, لأن المناسبة بين ما يعطيه الموقف الخاص به وبين هذا المنزل بعيدة مما بنى المنزل عليه. وكذلك الذي يأتي بعده, غير أن النازل فيه, وإن كان حائرا, فإنه يحصل له من الموقف في تلك الوقفة, إذا ارتفعت المناسبة بين المنزل والوقفة, أن المناسبة ترجع بين الوقفة والنازل, فيعرف ما تستحقه الحضرة من الآداب مع ارتفاع المناسبة, فيشكر الله على ذلك.
فصاحب المواقف متعوب, لكنه عالم كبير. والذي لا موقف له مستريح في سلوكه غير متعوب. ورب ما إذا اجتمعا, ورأى من لا موقف له حال من له المواقف, ينكر عليه ما يراه فيه من المشقة, ويتخيل أنه دونه في المرتبة. فيأخذ عليه ذلك, ويعتبه فيها, ويقول له: الطريق أهون من هذا الذي أنت عليه, ويتشيخ عليه, وذلك لجهله بالمواقف. وأما صاحب المواقف فلا يجهله, ولا ينكر عليه ما عامله به من سوء الأدب, ويحمله فيه, ولا يعر فه بحاله, ولا بما فاته من الطريق. فإنه قد علم أن الله ما أراده بذلك, ولا أهله, فيقبل كلامه. وغايته أن يقول له: يا أخي سلم الي حالي كما سلمت إليك حالك, ويتركه. وهذا الذي نب هتك عليه من أنفع ما يكون في هذا الطريق لما فيه من الحيرة والتلبيس, فافهم (ط بولاق, ج- 2, ص 805, ط بيروت, ج- 2, ص 599).
5- في هذه الفقرة يشير ابن عربي إلى «صاحب المواقف» في موضوع قول الصوفي «قال لي, وقلت له», إذا «لم يروا في الوجود غير الله» (ط بولاق, ج- 2, ص 827, ط بيروت, ج- 2, ص 614).
الشعراني
الطبقات الكبرى, ج- 1, ص 175 (ط القاهرة 1343 هـ/ 1925 م):
«الشيخ محمد بن عبد الجبار النّفري رحمه الله: كان من أهل القرن الرابع, رضي الله عنه, ولكن هكذا وقع لنا ذكره, وإن كنا لم نلتزم ذكرهم على ترتيب الزمان. وكان له, رضي الله عنه, كلام عال في طريق القوم: ]المتصو فة[, وهو صاحب «المواقف». نقل عنه الشيخ محيي الدين بن العربي, رضي الله عنه, وغيره. وكان إماما بارعا في كل العلوم. ومن كلامه رضي الله عنه في «المواقف» يقول الله عز وجل: «كيف لا تحزن قلوب العارفين ? وهي تراني أنظر إلى العمل, فأقول لسيئه: كن صورة تلقى بها عاملك, وأقول لحسنه: كن صورة تلقى بها عاملك».
وكان يقول:
»قلوب العارفين تخرج إلى العلوم بسطوات الإدراك, وذلك كفرها, وهو الذي ينهاها الله عنه».
وكان يقول, كأن الحق تعالى يقول:
»إذا تعل ق العارف بالمعرفة وادعى إنه تعلق بي, هرب من المعرفة, كما هرب من النكرة».
وكان يقول: كأن الحق تعالى يقول لقلوب العارفين:
»أنصتوا, واصمتوا, لا لتعرفوا, وإن ادعيتم الوصول إلي فأنت: ]فأنتم [ في حجاب بدعواكم, ووزن معرفتكم كوزن ندمكم. فإن عيونكم ترى المواقيت, وقلوبكم ترى الأبد. فإن لم تستطيعوا أن تكونوا من وراء الأقدار, فكونوا من وراء الأفكار».
وكان يقول:
»التقطوا الحكمة من أفواه الغافلين عنها, كما تلتقطونها من أفواه العامدين لها. فإنكم ترون الله وحده في حكمة الغافلين, لا في حكمة العامدين».
وكان يقول:
»حق المعرفة أن تشهد العرش وحملته, وما حواه من كل ذي معرفة يقول بحقائق إيمانه: ليس كمثله شيء. وهو, أي العرش, في حجاب عن ربه. فلو رفع الحجاب لاحترق العالم بأسره في لمح البصر, أو أقرب».
وكان يقول:
»لا تفارق مقامك, ] أو [ يميد بك كل شيء. وليس مقامك إلا رؤيته تعالى. فإذا دمت على رؤيته, رأيت الأبد بلا عبارة. إذ الأبد لا عبارة فيه, لأنه وصف من أوصاف الله عز وجل. لكن لم اسبح الأبد, خلق الله من تسبيحه الليل والنهار».
وكان يقول:
»إذا اصطفيت أخا, فكن معه فيما أظهر, ولا تكن معه فيما أسر. فإن ذلك من دونك سر, فإن أشار إليه فأشر إليه, وإن أفصح به فأفصح عنه».
وكان يقول, كأن الحق تعالى يقول:
»اسمي وأسمائي عندك ودائعي, لا تخرجها, فأخرج من قلبك. فإذا خرجت من قلبك, عبد ذلك القلب غيري, وأنكرني بعد المعرفة, وجحدني بعد الإقرار. فلا تختر: ]تخبر[ باسمي, ولا بمعلوم اسمي, ولا تحد ث من يعلم اسمي, ولا بأنك رأيت من يعرف اسمي, وإن حدثك عن اسمي, فاسمع منه, ولا تخبره أنت».
وكان يقول:
؛علامة الذنب الذي يغضب الله عز وجل أن ي عق ب صاحبه الرغبة في الدنيا, ومن رغب فيها فقد فتح بابا إلى الكفر بالله عز وجل, لأن المعاصي بريد الكفر. وكل من دخل ذلك الباب, أخذ من الكفر بقدر ما دخل».
والله تعالى أعلم. وقد ذكرنا جملة صالحة من كلامه في «مختصر المواقف», والله تعالى أعلم».
حاجي خليفة
كشف الظنون (تحقيق: فلوجل, جـ 5, ص 235, ت 13355):
»المواقف» في التصوف, للنف ري, وهو الشيخ محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري, الصوفي, توفي سنة 354 هـ. وعليه شرح للتلمساني (عفيف الدين سليمان بن علي بن عبد الله) الأديب, الصوفي, توفي سنة 690 هـ. ويأتي الشرح بعد المتن, وأو له: الحمد لله رب العالمين. ويبدأ بشرح موقف الغر: [العز].
القاشاني
لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام, مادة «موقف»:
»الموقف هو نهاية كل مقام, وهو استيفاء حقوق المراسم, كما بينت هنا. وهو مقام الموقف أيضا: الذي هو الحبس بين المقامين, لأن غرض الصوفي من الاتحاد هو ما يبقى فيه من إصلاح المقام الذي حصل فيه الترقي, وأيضا لأن غرض استيفائه هو ما يحتاجه عند دخول المقام الذي يحصل فيه الترقي. والمواقف: جمع موقف, وهو موضع الوقفة, كما بينت. وقد جمعت هذه المواقف في كتاب اسمه: «المواقف النفرية», منسوب للشيخ محمد بن عبد الجبار النفري, جمع فيه المقامات من خلال الوقوف بين مقامين. لهذا السبب عنون كل مقطع منه بهذه الكلمات: أوقفني وقال لي».
الذهبي
المشتبه (ذكره دي غويه: دليل المخطوطات الشرقية في ليدن):
النفري, محمد بن عبد الجبار, صاحب «المواقف» والادعاءات والبدع.
الحكمة الصوفية
أهم ما يتسم به فكر النفري هو مذهبه في الوقفة. وقد مر بنا التأويل الذي نسبه ابن العربي لهذا المصطلح الفني: غير أن النبذة المقنعة فيه مستمدة إلى حد كبير من التمعن في القطع التي يحاول فيها النفري نفسه أن يوضح ما المقصود بالوقفة. والموقف الثامن بمجمله هو بالطبع الشاهد الكلاسيكي على موضوع الوقفة, وينصرف اهتمام القارئ انصرافا كاملا لذلك الموقف, لأنه يحتوي على جوهر تعاليم النفري.
الوقفة
الوقفة ينبوع العلم,حيث يستمد الواقف علمه من تلقاء نفسه, بينما يستمده غير الواقف من غيره. وللوقفة مطلع على كل علم, وليس لعلم عليها مطلع. الوقفة روح المعرفة, والمعرفة روح الحياة. فالوقفة عمود المعرفة, مثلما أن المعرفة عمود العلم. في الوقفة تحترق المعرفة مثلما يحترق العلم في المعرفة. والوقفة وراء البعد والقرب, والمعرفة في القرب, والعلم في البعد. لأن الوقفة حضرة الله, والمعرفة خطابه, والعلم حجابه. إذن لدينا: الوقفة [المعرفة] العلم.
الوقفة باب الرؤية, وهي تعتق من رق الدنيا والآخرة. إنها نور الله الذي لا يجاوره الظلم. إنها يد الله الطامسة التي ما أتت على شيء إلا طمسته, ولا أرادها شيء إلا أحرقته. إنها أيضا ريح الله التي من حملته بلغ إليه. لكنها, مع ذلك, لا تفضي إلى الله كما لا تفضي المعرفة إليها, ولا العلم للمعرفة. لأنها جوار الله, والله غير الجوار. ولو صلح لله شيء صلحت الوقفة, ولو أخبر عن الله شيء, أخبرت الوقفة. الوقفة تمحو الخواطر بنوريتها وتعرف الأقدار. إنها نار السوى, ونار الكون. إنها انبثاق من الحرف, ونار تحرق المعرفة,لأنها تبي ن أن المعرفة سوى. الوقفة تنفي ما سواها, كما ينفي العلم الجهل. وبينما ترى المعرفة الله ونفسها, ترى الوقفة الله فقط. المعرفة حد ما يقال, والوقفة وراء ما يقال. لو خرج الصوفي عن الوقفة التي تقربه من الله, لانتهبته المكونات. إن الوقفة مستحيلة حقا, ما دام للسوى جاذب, لكنها توضح حد السوى, حتى يخرج الصوفي عن السوى.
الواقف
لا يصلح الواقف على العلماء, ولا تصلح العلماء عليه. والعارف يشك في الواقف, ولا يقدر قيمته حق قدرها, لكن الواقف لا يشك في العارف. والواقف وحده يجمع بين العلم والحكم, لأنه يرى العلم ولا يروقه الحسن, ولا يروعه الروع. وكل واقف عارف, وما كل عارف واقف. يخبر الواقف عن الله, ويخبر العارف عن المعرفة. وقلب الواقف على يدي الله, وقلب العارف على يد المعرفة. والعارف ذو قلب, والواقف ذو رب. وإذا نزل البلاء تخطى الواقف, ونزل على معرفة العارف وعلم العالم. والعالم في الرق, والعارف مكاتب, والواقف حر. لأن الواقف فرد والعارف مزدوج, والعارف يعرف ويعرف, والواقف يعرف ولا ي عر ف. والعالم يرى علمه ولا يرى المعرفة, والعارف يرى المعرفة ولا يرى الله, والواقف يرى الله ولا يرى سواه. يخبر العالم عن العلم, ويخبر العارف عن المعرفة, ويخبر الواقف عن الله.يخبر العالم عن الأمر والنهي وفيهما علمه, ويخبر العارف عن حق الله وفيه معرفته, ويخبر الواقف عن الله وفيه وقفته. يرى الواقف ما يرى العارف في معرفته, ويرى العارف ما يرى العالم في علمه. إذا وقف الإنسان بالله أعطاه الله العلم فكان أعلم به من العالمين, وأعطاه المعرفة فكان أعرف بها من العارفين, وأعطاه الحكم فكان أقوم به من الحاكمين. يرى العارف مبلغ علمه, والواقف وراء كل حد ومبلغ. لأن للعارف أخبار الله وللواقف وجهه.
لا يستقر الواقف عند شيء حتى يصل الله, فلا يتسع له شيء, ولا ينسجم معه شيء. لو تعلق قلبه بالسوى, فلن يكون واقفا, ولو كان السوى في قلبه, فلن يكون دائما. لأن الواقف وحده هو الدائم, والدائم وحده هو الواقف. ولا يعرف الواقف المجاز, لذلك ليس بينه وبين الله حجاب. والواقف بحضرة الله يرى المعرفة أصناما ]هكذا في الترجمة الانجليزية, وفي الأصل العربي: أصنافا, ولعله خطأ طباعي[ ويرى العلوم أزلاما. يموت جسم الواقف ولا يموت قلبه. ولا يرى حقيقة إلا الواقف. وهو وحده الذي يدنو من معرفة الله, لأن الله لن ي عرف أبدا معرفة كاملة. ويكاد الواقف يفارق حكم البشرية, ولا يأتلف به الزمان والحدثان. وهو قد عبر صفة الكون فما ي حكم عليه.فليس للكون حكم عليه, إذ لا يستقر في الكون, ولا الكون فيه. ولو انفصل عن الحد شيء انفصل الواقف. لأنه لا يقبله الغيار ]لا يؤثر فيه التغير[ ولا تزحزحه المآرب. وقد يوجد فيه كل شيء, ولا يوجد في شيء. وهو أقرب إلى الله من كل شيء.
لقد أصبحنا الآن في وضعية مناسبة لمراجعة أحكام النفري عن المعرفة والعلم, ومعهما أوصافه للعارف والعالم.
المعرفة
رأس المعرفة حفظ الحال الروحي للصوفي, وكل ما يجمعه على المعرفة فهو من المعرفة. والمعرفة لسان الفردانية, إذا نطق محا ما سواه, وإذا صمت محا ما تعر ف. والعلم باب الله, والمعرفة بوابه. العلم عمود لا يقله إلا المعرفة, والمعرفة عمود لا يقله إلا المشاهدة. لذلك تبقى المعرفة ما بقي خاطر: أول المشاهدة نفي الخاطر, وآخرها نفي المعرفة. المعرفة نار تأكل المحبة, لكنها أيضا تأكلها نار الوقفة, التي تشهد أن المعرفة سوى. إذا رأى الصوفي الله, رأى العلم والمعرفة نفيا عن الله, وإذا حملهما في طريقه إلى الله, اعترضته الدنيا والآخرة, وإن كان طريقه فيهما حبساه. المعرفة بلاء الخلق خصوصه وعمومه, وفي الجهل نجاة الخلق عمومه وخصوصه. كل أحد تضره معرفته, إلا من وقف بالله في معرفته. المعرفة التي لا جهل فيها معرفة لا معرفة فيها, لكن المعرفة التي لا جهل فيها لا تبدو, تماما كما لا يبدو جهل لا معرفة فيه. وإذا تعرف الله إلى قلب أفناه عن جميع المعارف. فالمعرفة إذا حضرت, غابت الحاجة. أو ل ما تأخذه المعرفة من العارف كلامه. ذلك أن آية المعرفة ألا يسأل العارف الله عنه ولا عن كلامه, بل يزهد في كل معرفة فلا يبالي بعد معرفته بمعرفة سواه. كل من يحاول أن يعلق معرفة الله على معرفة السوى فهو منكر. لأن المعارف المتعلقة بالسوى نكرات, قياسا بالمعارف غير المتعلقة بالسوى. والمعارف التي تثبت بالواسطة تمحوها الواسطة.
العارف
لا يصلح العارف لحضرة الله, لأن سرائره بنت قصورا في معرفته, فهو كالملك لا يحب أن يزول عن ملكه. والوقفة ميثاق الله على كل عارف: إذا عرف هذا الميثاق خرج من المعرفة إلى الوقفة, وإن لم يعرفه امتزجت معرفته بحده. ومعرفة من لم يقف حاسرة, تماما كما أن علم من لم يعرف غير مفيد. العارف يستدل بالله, والعالم يستدل على الله. ولا يذنب العارف إلا في حال معرفته: فإن لم يدم فهو منكر,وإن لم ينصر الله فهو منكر. المعرفة خطاب الله, وحكومة العارف خطابه, وحكومة الواقف صمته, وحكومة العلم علمه. ترى قلوب العارفين الأبد, وترى عيونهم المواقيت: أرواحهم لا كالأرواح, وأجسامهم لا كالأجسام.
العلم
العلم حجاب الله, لأنه حجاب الرؤية. فهو حجة الله على كل عقل, فالعقل فيه يثبت: ولكن إن انحصر العلم لم يكن علما . العلم باب الله, ولكنه يفصل عن الله أيضا حين ينادي على العابد بجوامعه في صلواته. العلم أضر من الجهل على من يرى الله, لأنه وما ينطوي عليه في غياب, لا في رؤية. ليس للعلم مطلع على الله, ولا متعلق له به. ونوره يضئ الصوفي لذاته, لا عن الله. تبقى الخواطر والمخاطر ما بقي العلم:لأنه ملقى في الحرف, ولأنه معدن الحرف, والاسم معدن العلم. العلم مجرد واسطة, والوسائط يجب أن ت طرح جانبا مع المعارف في الطريق إلى الحق, لأن المتصوف, إذا انقاد لهما, فقد يهوي بالعلم, وقد تنقلب المعرفة به إلى نكرة. صاحب الرؤية يفسده العلم, كما يفسد الخل العسل. العلم الذي يرى فيه الصوفي الله هو السبيل إليه, والعلم الذي لا يراه فيه هو حجاب فاتن, لا طريق فيه يفضي إلى الله. حين يرى الصوفي الله, يرى العلم والمعرفة طردا من حضرته, فلا يرى الله, ولا ينتفع بعلمه. ومن لم يستقر في الجهل لم يستقر في العلم. ومن لم يستتر بالجهل من العلم لم ير الحق. العلوم كلمات من كلمات الله: مبلغ حدها الجزاء, فلله في العلوم بيت, يتحادث منه مع العلماء.
العالم
العالم يستدل على الله, لكن كل دليل يستدل به إنما يدله على نفسه, لا على الله. وما لم يتوقف العالم ويفتر, فإنه جاهل, وإن لم يزل كل عالم, لم يزل كل جاهل. والعلماء على ثلاثة أنواع: عالم هداه في قلبه, وعالم هداه في سمعه, وعالم هداه في تعلمه. والعلماء يدلون على طاعة الله, لا على رؤية الله.
لفظتان كثيرا ما يقابل بينهما النفري, وهما الرؤية والغيبة. وقد جمعنا هاهنا أهم المقاطع التي يشير فيها النفري إلى هاتين الحالتين.
الرؤية
باب الرؤية هي الوقفة, وإن خرج الواقف من رؤية الله احترق. وذكر الله, في أثناء رؤيته, جفاء, فكيف برؤية سواه, أم كيف بذكره مع رؤية سواه. لن يبقى الصوفي في رؤية الله, حتى يخرج من الحد والمحدود (أو من الحرف والمحروف), ويرى حجاب الله رؤية, ورؤيته حجابا. مقام الصوفي هو الرؤية, وما لم يقف في الرؤية تخطفه كل كون. الرؤية وصل بين الصوفي والأشياء, والغيبة تجديد الوصل. رؤية الله تثبت القلب وتمحو الكون والوجود, وبالرؤية تكتمل هوية الذات والموضوع. الرؤية باب الحضرة, فبالرؤية يثبت الله الأسماء ويمحوها في الحضرة. من ير الله يغتن غنى لا ضد له. لا صمت, في الرؤية, ولا نطق, ولا إضحاء ولا ظل. الرؤية أن يرى العبد الله في كل شيء, والغيبة أن لا يراه في شيء. تنتمي الرؤية إلى الخصوص, وتنتمي الغيبة إلى العموم: فالغيبة هي الدنيا والآخرة, والرؤية لا هي الدنيا ولا الآخرة. محرم على العبد أن يسأل الله في الرؤية, إلا أن يقول للشيء «كن» فيكون. إذ لو سكن الإنسان على الرؤية طرفة عين لجو زه الله على كل ما أظهره وآتاه سلطانا عليه. رؤية الدنيا توطئة لرؤية الآخرة, ومن لم ير الله في الدنيا لن يراه في الآخرة.
الغيبة
الغيبة قاعدة ما بين الرب والعبد في إظهار الصوفي, وهي تكمن في أن لا يرى الله في شيء, وفي اعتبار الله مثبتا للإظهار, به يراه ويرى الإظهار. ما من عزاء في غيبة الله, إذ لو جاء الكون كله لتعزية المتصوف في غيبة الله, وسمعه المتصوف وأجابه, فلن يرى الله. من يسأل الله في الغيبة كمن لا يعرفه, حقا أن الله أباح للمتصوف مسألته في الغيبة, ولكن فقط لحفظه في رؤيته. يطغى كل شيء على العابد في الغيبة, ويسع العلم كل شيء في الغيبة, لكن العلم لا ينفع حامله. الغيبة والنفس كفرسي رهان, وإذا بنت الغيبة هدمت الرؤية. غيبة الحق التي لا تعد بالرؤية هي حجاب, لأن الغيبة حجاب لا ينكشف. الغيبة سجن المؤمن في الدنيا والآخرة, ففي الدنيا هي وعيد الله, وفي الآخرة هي احتجاب يبقى ما بقيت المطالبة من الحق ومن العبد. وأخيرا, فالغيبة هي وطن ذكر, لأنها المسرح الذي يذكر فيه العبد الرب كما يحب الرب, وإذا خرج العبد في الغيبة عن ذكر الرب, غلبه كل شيء, ولن ينصره الله.
كثيرا ما يناقش النفري طبيعة الغير الذي يساويه بالباطل, ويطلق عليه مختلف الألفاظ مثل (السوى) و(الغير) و(الحرف) (وجمعها: حروف) و(الكون). وستوضح مجموعة المقاطع التالية المأخوذة من نصوصه مذهبه الصوفي في هذه القضي ة.
السوى
إن لم يظفر العبد بالحق فإنه سيظفر به سواه, ولن يظفر العبد بوقفة ما بقي عليه جاذب من السوى. والجمع بين السوى والمعرفة يعني محو المعرفة وإثبات السوى: لكن إذا ذكر العبد الحق مر ة, محا الحق ذكر السوى كل مرة. يجب أن ي ذهب الصوفي عنه وجد السوى بالمجاهدة, إذ لا يمكن أن يجاور الحق وجد بسواه. يجب أن يخلي الصوفي بيته من السوى, وأن يغطي وجهه وقلبه, حتى يخرج السوى, فإذا خرج فضحك نعماء. فإن تبع السوى الصوفي, وإلا تبعه الصوفي. وإذا تم الجمع للصوفي من خلال السوى, فإن جمعه في الحقيقة فرق. العبد عبد السوى ما رأى له أثرا. ومن التزم بحقوق الإيمان بالله, وكلم سواه, فقد كفر. فالكون كله سواه, فالسوى كله حرف, والحرف كله سوى. والعبد المخلص لله هو من يتحرر من السوى, والعبد الأمين هو الذي يرد السوى إليه. ومن لم يجب دعوة سواه كتبه الحق جليسا له.والسوى, عند رؤية الحق, كله ذنب, وفي غير الرؤية كله حسنة. ومن استغنى بشيء سوى الله فقد افتقر بما استغنى به.
الغير
إذا رأى الصوفي غير الله فإنه لم ير الله, لأن الغير كله طريق الغير. وإذا عر ف الله الصوفي على السوى فإنه أجهل الجاهلين, إذ ليس ثم غير الله. ورؤية غير الله تعني تول يه: لكن ذلك الجزء من الصوفي الذي يعرف الله لا يصلح على غيره. والعمل الذي أريد به وجه الله فذلك له, والعمل الذي أريد به غيره فذلك لغيره. وإذا خرج الله من قلب عبد ذلك القلب غير الله.لكن ولي الله لا يسعه غير الله, لأن الله لم يرده لغيره. وإذا أجاب الله نداء الصوفي فقد أصمه عن نداء غيره ما بقي, وإن اختار الصوفي غير الله غاب عنه الله.
الحرف
الحرف خزانة الله, فمن دخلها فقد حمل أمانته: والحرف نار الله, و قدره ] هكذا يقرؤها آربري, ويترجمها ب- value ولعل قراءتها الصحيحة هي: قدره [, وأمره وخزانة سره. كل نطق يظهر, فقد أثاره الله وحروفه ألفته: لأن الله ألف بين كل حرفين بصفة من صفاته, فتكونت الأكوان بتأليف الصفات لها. فالذين عند الله لا يفهمون حرفا يخاطبهم, لأن الله أشهدهم قيامه بالحرف,فلا يرونه إلا آلة وواسطة. والحرف الذي تكونت به الحروف لا يستطيع محامد الله, ولا يثبت لمقامه: ولو اجتمع النطق كله في حرف, وتعل ق ذلك الحرف بالله, لما بلغ كنه حمده, ولا حمل رؤية قربه. وما أرسل الله العبد إلى الحرف إلا ليقتبس حرفا من حرف كما يقتبس نارا من نار. فإذا خرج العبد من الحروف فقد نجا من السحر. وهذا الخروج عن الحرف خروج عن الاسم والمسميات وعن كل ما بدا, ولذلك فهو يفضي إلى الصحبة الكاملة. ولن يقف الصوفي في رؤية الله حتى يخرج عن الحرف والمحروف. الحرف حجاب: والعلم حرف, والمعرفة حرف, ولن يفلح المتصوف ما لم يخل ف الحرف وراء ظهره. لأن الشك يسكن في الحرف, والكيف يسكن في الحرف, فالحرف فج إبليس. الحرف لا يعرف الله, والله يخاطب الحرف بلسان الحرف, والحرف أعجز من أن يخبر عن نفسه, فكيف يخبر عن الله ? الحرف دليل إلى العلم, لكنه لا يلج الجهل: فالعلم في الحرف, ومن اجله ي نحت الحرف في دهليز الله. والولي لا يسعه حرف. إذا ثبت الحرف للصوفي, فما هو من الله, ولا الله منه. والحرف لا يلج الحضرة, وأهل الحضرة يعبرون الحرف ولا يقفون فيه. الخارجون عن الحرف هم أهل الحضرة, والخارجون عن أنفسهم هم الخارجون عن الحرف. والله أقرب من الحرف وإن نطق, وأبعد من الحرف وإن صمت, لأنه رب الحرف والمحروف.و الأسماء نور الحرف, والمسم ى نور الأسماء.
الكون
الكون موقف, وكل جزئية من الكون موقف: والكون كله سوى, إذا أجابه الصوفي عذ به الله, ولم يقبل منه ما جاء به. ومن تعل ق بالكون عرض له الكون. ولكن إذا أقام الصوفي عند الله اجتاز الكوني ة, لأن رؤية الله تمحو الكون. والوقفة حق ا نار الكون, لأن الواقف إذ لا يستقر على كون يعبر صفة الكون. والكون كله لا يسع عطايا الله. لم يدرك الكون فهم تكوينه, ولن يدركه. وإذا جعل الصوفي الكون طريقا من طرقاته لم يزوده الله منه بزاد, لأن الزاد لا يأتي من الطريق. الكون كالكرة والعلم كالميدان. فـ «أنت», أعني: فكرة المخاطب, هي معنى الكون كله.
أخيرا, من المفيد أن نجمع معا المقاطع التي تلقي الضوء على المذهب الخاص بالنفري عن المعنى والاسم والحروف, إذ غالبا تكون الجمل المنفصلة عن بعضها غير مفهومة, لكنها إذا جمعت وقوبلت كونت فلسفة صوفية مثيرة ودقيقة.
المعنى
»أنت» هي معنى الكون كله. معناك أقوى من السماء والأرض, معناك يبصر بلا طرف, ويسمع بلا سمع, لا يسكن الديار ولا يأكل من الثمار, ولا يجنه الليل, ولا يسرح بالنهار. معناك لا تحيط به الألباب, ولا تتعلق به الأسباب. لأنه المعنى الذي خلقه الله, والله من ورائه. يريد الله أن يبدي خلقه ويظهر ما يشاء فيه, لذلك يظهره يدعو إلى نفسه, ويحجب عنه, ويحضر بمعنوي ته, ويغيب عن موقفه. لأن الله أظهر كل شيء, وجعل الترتيب فيه حجابا عن معنويته, وصي ر الحد فيه حجابا عن مراده فيه. كل معنوية ممعناة إنما معنيت لتصرف, وكل ماهية ممهاة إنما أمهيت لتخترع. مصحوب كل شيء غالب حكمه, وحكم كل شيء راجع إلى معنوي ته, ومعنوية كل شيء ناطقة عنه, ونطق كل شيء حجابه إذا نطق.
لكل شيء من الظواهر حكم وصف انفصل عنه, وبقي الوصف وصفا والحكم حكما. حتى ليمكن اعتبار الوجود على نوعين: فوقي, وتحتي, والأرواح والأنوار في الفوقي ة, والأجسام والظلم في التحتي ة. ينتمي الكل إلى الفوقي ة, ولكنه حين يقترن بالإنسان ينتمي إلى التحتية.وتنتمي «الأنية» و»الهوية» إلى الكل: فقد أظهر الله الظواهر بالمعنوي ة, وفيها العوالم الثبتية, ثم بدا للثبتية فأفناها, فلم يبق إلا المعنوية. وتنتمي المعنوية إلى الفوقية, وموضع الإنسان بين الروحي والثبتي.
لكل شيء شجر, وشجر الحروف الأسماء, فاذهب عن الأسماء تذهب عن المعاني, وبذلك تصلح لمعرفة الله. إن خرجت من معناك, خرجت من اسمك, وإن خرجت من اسمك وقعت في اسم الحق. والسوى كله محبوس في معناه, ومعناه محبوس في اسمه, فإذا خرجت من اسمك ومعناه, لم يكن لمن حبس في اسمه ومعناه سبيل عليك. لكل شيء اسم لازم: ولكل اسم اسماء: فالأسماء تفرق عن الاسم, والاسم يفرق عن المعنى. لقد أل ف الله بين كل حرفين بصفة من صفاته, فتكونت الأكوان بتأليف الصفات لها: والصفة التي «لا تنقال» هي فعاله, وبها تثبت المعاني, وعلى المعاني ركبت الأسماء.
الاسم
الحرف متضمن في الأسماء, والأسماء في الاسم, والاسم في الذات: الأسماء نور الحرف, والمسمى نور الأسماء. العلم والمعلوم في الاسم, والحكم والمحكوم في العلم. الاسم معدن العلم, والعلم معدن كل شيء: فالاسم يستهلك العلم, والعلم يستهلك المعلوم, والمسمى يستهلك الاسم.
الأسماء لله: هو من أودعها, وبه أودعها. اسمه وأسماؤه ودائعه عند الإنسان فلا يخرجها حتى لا يخرج من قلبه. وأينما جعل الله اسمه فليجعل الصوفي اسمه, ذلك أن الله إذا آتى أحدا اسما من أسمائه, وكلمه قلبه به, فقد أوجده الحق به لا بالعبد, وقد كلمه العبد بذلك الجزء الذي كلمه به الحق. وإذا رأى العبد الحق ولم ير اسمه وانتسب إلى عبوديته فهو عبده: لأنه إذا رآه ورأى اسمه فقد غلبه الله. وإذا رأى اسم الله ولم يره فإن عمله لا يصلح لعبودية الله, وما هو بعبده. يجب أن يواري العبد الحق عن اسمه, وإلا رأى الاسم ولم ير الحق. لكنه إذا لم ير الله فيجب أن لا يفارق اسمه.
أودع اسمك لله, ولا تجعل بينه وبينك اسما ولا علما, لأن علمك حجابك, وأسماءك حجابك. وإذا أذهبك الله عن الأسماء فقد آذنك بحكومته, ولا حكم للاسم من دون الله.
الحروف
عن مذهب النف ري في الحروف انظر مادة الحرف فيما سبق
المخطوطات
] أعطينا هنا رموز المخطوطات التي اختارها آربري في آخر النص العربي - المترجم.[
اعتمدت عند إعداد هذه الطبعة من «المواقف» و؛المخاطبات» على المخطوطات الآتية:
ب - مخطوطة مارش 166 في مكتبة بودليان, أكسفورد. وهي مخطوطة واضحة جيدة الخط, منقوطة قليلا, تحتوي على؛المواقف» وشرح التلمساني له, مكتوبة سنة (694هـ) وتقع في (220) ورقة.
ج - مخطوطة غوطة 880. مخطوطة ممتازة, يمكن اعتبارها أهم مخطوطة تجمع تراث النفري, وتحتوي على «المواقف» و؛المخاطبات» معا وبعض الشذرات الأخرى, ولكن بدون شرح. كتبت سنة (581 هـ) وتقع في (132) ورقة. وترقيمها في الوقت الحاضر لا يخلو من اضطراب. وهذه المخطوطة, كما يقول ناسخها, منقولة عن نسخة بخط النف ري نفسه, لذلك فهي تحتفظ بتراث قديم جدا, كما هو واضح, فيما يتعلق بتاريخ أجزاء الكتابات المختلفة وتبويبها.
أ - مخطوطة مكتب الهند,لندن, 795. اطلعت على هذه المخطوطة في البداية من خلال صورة لها عند الأستاذ نكلسون. وتحتوي على «المواقف» وشرح التلمساني. وقد تم نسخها سنة (1087), وتقع في (156) ورقة.
ل - مخطوطة ليدن, ورنر, 836. لم يذكر بروكلمان هذه المخطوطة في قائمته, وقد تفضل بتنبيهي إليها د. فان أريندونك, الذي يصفها كالتالي: «مخطوطة واضحة جيدة الخط, مكتوبة بالنسخ, تقع في (291) ورقة, في كل صفحة أحد عشر سطرا, بقطع 8 *51 سم. وهي منقوطة حتى الورقة (37), وعلى هامشها شروح حتى الورقة (48). وليس فيها تاريخ, لكن المخطوطة هنا (في ليدن) منذ منتصف القرن السابع عشر». والشرح الذي عليها هو في الأساس للتلمساني, ولكن هناك أيضا شذرات من شرح كتبه من اسمه عبد الكريم السوزي.
م - مخطوطة مارش 455 في مكتبة بودليان. مكتوبة بخط صغير دقيق, وتقع في (571) ورقة, وتحتوي على «المواقف» و»المخاطبات» مع شرح قصير مجهول المؤلف, هناك ما يرجح نسبته لابن عربي. المخطوطة غير مؤرخة, وتتبع تقليد مخطوطة (ج).
ق - مخطوطة تيمور باشا (القاهرة, دار الكتب) تصوف 11. تحتوي على المواقف والمخاطبات وبعض القطع الأخرى. وقد فقد منها جزء كبير من المواقف. تم نسخها سنة (1116 هـ). ولم نستفد منها في هذه الطبعة, إلا فيما يتعلق ببعض قراءات المخاطبات. أما إسناد المواقف فيها فلا وزن له.
ت - مخطوطة ثيرستون, 4, في مكتبة بودليان
............................................................
نقلا عن مجلة نزوى