وساوس مسعودنص قصصي خطوة أولىعلى نافذته ذهنه البنفسجيّة الموصدة، ذات المقبض الذهبيّ المشغول برسوم مائيّة، كتب مسعود: ممنوع دخول النساء، والمجاذيب، وذوي الاحتياجات الخاصة. ممنوع دخول كل من ليس في طاقته أن يرى وجه زنجي يمرّ مستترا بالظلام الدامس، وممنوع كلّ من لا يسيل لعابه لدى ذكر الحلوى، والفطائر المسلوقة في العسل، وفاكهة الشمّام.مسعود والشمّاممسعود ليس شابّا ولا كهلا، بمعنى أنّه ليس قديما معفى من الأحقية في الحضور الحاليّ، وليس من طائفة المودرن، وليس هو مواطنا لصيقًا بمعنى المواطن الذي لم يغادر بلاده قطّ، فقد رأى بصورة غامضة وبالغة اللطف كيف يضربون رؤوس الخنازير في بوركينافاسو ثم يقذفون بها في أتون النار وينقضّون عليها في سعار مجنون ليغرفوا شحمها بالكواريك. ومسعود يخشى النساء لأنه لم يتعرّف منهنّ إلا على ميمونة النحاسيّة التي دخلت عليه وهو مضطجع على جنبه وفي يده الخبزة المغموسة في السمن، وجلست بجواره ومدّت قدمها الطويلة التي تشبه حرف الألف في لافتة الصيدلية الثقيلة، ومضتْ تقضم الفطائر بتلذّذ، وترفع أصابعها المزيّتة إلى شعرها لتفلفله ثم تفتحه بكل أريحيّة، وعندما همّ بأن يسألها قطعة من الفطائر العسليّة حال بينه وبينها ضباب له ذرّات فصيحة الأجرام، ولم يتبق من حسّها إلا صوت تلمظها وبلعها، فاختار أن يبدو وكأنه يريد تركها، وهجرها، وهكذا ظلّت تعاوده إلى يوم وفاته. وميمونة النحاسية مهما يكن من أمر ليست سوى قضمة فأر واحدة في السور الذي تدهور وأدى بمسعود إلى التخلّي عن حياته عندما تسلّق الجسر المعلّق الوحيد بالرياض، الجسر المعلّق مشرفا على حجز السيارات بوادي لبن حيث تبيت الكلاب الجعريّة مستظلّة بالسيارات التي لن يعود أصحابها إلى أخذها، قفز من أعلى الجسر وظلّ مشغولا في فترة السقوط القصيرة بالانبهار بالأعمدة المعدنية الهائلة التي تتدلى من السحاب. ومسعود ليس منبوذا إلى الحدّ الذي يمكن أن يصمه به الخيال الجائر، فقد دخل القصور من أبوابها الأماميّة على شكل مهرّج، ودخلها من أبوابها الخلفيّة على شكل متكفل بأداء مهمات واحتياجات خاصة، لأنه لا يُخشى منه أن يتطاول لسانه بذكر شيء، لأنه ينسى دائما في يوم الغد ما حدث بيوم الأمس، وقد عرف الشمّام في يوم ارتجفت فيه الأرض لشدة البرد، خرج ليلا واستنشق الهواء البارد بخياشيمه وملأ به صدره، فشمّ رائحة كرائحة الشمّام، الرائحة التي بفضلها هي وحدها توصل إلى لحظة حبّ أبديّ مع الشمام، لكنه لم يهتدِ إلى الشمّام إلا بعد عدة أشهر، في مأدبة غداء عائلية في قيظ عام من الأعوام المجدبة، وكانت الشمّامات مبسوطة في أطباق دائرية بيضاء بلا نقوش وبلا عمق، والشمامات مبتورة من أطرافها وقد قطعتْ الثمار تقطيعا رأسيّا، وفاح عبيرها، فتذكّر بها الرائحة التي كان يخرج في الليالي مصطكّ الأضراس مرتجف السُّلامَى ليطاردها دون أن يحلم مجرد الحلم أنه سيعرف لها شبهاً، ومن ذلك الحين اعتاد أكل الشمام بفصمه، بعد أن يمصّ كلّ حبة من حبّاته مغمضا عينيه طوال العملية الحميمة، يغرس السّكين فقط في رأس الثمرة الكبيرة المستديرة، ثم ينقضّ بأصابعه الفتيّة على الثمرة، يمزّق عذريّتها، ويتمتع برؤية مائها يسيل على ظاهر كفه وباطنها، وتسببت هذه العادة أيضا في طروء عادة أخرى جديدة عليه، هي الاكتفاء بنضح اليدين بالماء بعد أكل الشمام، ليبقي على رائحته معه أطول وقت ممكن، وذلك ما كان سببا آخر ضمن سلسلة الأسباب المتعاقبة في اعتياده على تخليل شاربه وفمه بيديه، ذلك ليشغل حاسة شمه بهما، وليس ليمنح شاربه ويديه متعة تبادل اللمس اللاإرادي.إضافات أخرى عن ذهنيّة مسعوديحسن بنا ألاّ ننساق خلف التفاؤل بأننا ندرك خبايا ذهنيّة مسعود؛ فهي ذهنيّة مثقفة تركّز أحيانا، ولكنها في غالبيّة الأحيان تتدهوَر، ومسعود كمرضى الزهايْمر ينسى بعض أسهل المسلّمات العقليّة، ويستسلم بعفويّة إلى التصرف بسلوكيّات مرضيّة وأحيانا تكون بدائيّة، ولكنّ كلّ ذلك تحت سطوة مشاهداته التي يراها، خاصّة أنّه يمتلك قوة ذهنيّة تمكّنه من خلط ذكرياته وخيالاته وتجسيدها فيكون لها ظهور المرأى المحسوس، ولذا فهو يعايش ويرى بأمّ عينيه ما يحدث وهو يسترجع ذكريات قديمة لا علاقة لها بالحضارة المدنيّة ولا بشكل المدينة القائمة حوله، عهد الجدب والهوام التي تسقط على حواف الآبار وتلدغ كل ما يحيط بهِ بللٌ من قرَبٍ وغيرها، يتذكر في تلك الفترة الغابرة من الماضي كيف أنّ الماء كان حماية للآدميين من الهوامّ إضافة لكونه سقيا لهم، وأن الريّ والبلل المتشعب في باطن الأرض هو المدافع الوحيد عن بقاء الإنسان، وإلا فإن أي قطرة ماء تصب من قربة أو دلو أو جرّة فإن هوام المناطق المحيطة ستتهافت وتقذف بنفسها على البلل وتلدغ الموجودين في خضم اندفاعها المستميت إلى أيّ رطوبة، ورأى ذلك فقال: "لم أعد متشوّقا لرؤية يأجوج ومأجوج". وكم من مرّة أغضى بنظره عمدا عن أناس شاركوه مسكنه، وكان السبب في إغضائه عنهم هو أن كل أهل البيت لا يلتفتون لهم ولا يشغلون أنفسهم بهم، مع أن سكناهم استمرّت لفترات طويلة، إلى درجة أنهم لم يكونوا يخرجون حتى للصلاة، بل كان لهم مسجدهم في مستودع القبو، ولهم إمام يلقبّونه بهذا اللقب: (المطوع)، يلقي خطبته قائلا: ربكم أمريكا، ربّكم الملك، وأنا ربي الله، ويحثّهم على جمع التبرعات، فيجمعون له بُكَشَ الملابس في الغرفة، مقابل أن يغض طرفه عن مغازلات غريبة تجري فيما بينهم، ومقابل أن يستمر في التغاضي عن بعضهم وهم يتطاولون ويؤذون الجيران بملء قبضاتهم أرزّا ورميها في سطوحهم المجاورة. الشوربة التي يأتي بها أبو دهمان –وهو أحدهم- تبقى في القدر وكل منهم يمد يده بملعقته في القدر وهذا هو ديدنهم في الأطعمة بوجه عام. دخل عليهم لص، فخرجوا هاربين جميعا ولم يبق منهم إلا رجل اسمه صالح وهو نائم بجانب زوجته، وزوجته تقول: ألا ترى هذا اللص الجالس على طرف فرشتنا؟ فيقول لها: وهل صنع لك شيئا؟ هل مدّ يده عليك أو على شيء؟ واستغرب اللص وخرج لهذا الجنون الذي لم يتوقعه قط ولا حتى في أشد أحلامه شططا. كان هذا في العهد الذي يسميه مسعود بعهد النور، ثم جاء عهد كسر الكؤوس، فصاروا يشربون في الكؤوس ويكسرون أي كأس لا يعجبهم طعم ما فيها، آخرون كسروا الكؤوس التي لا يعجبهم شكلها، وجاء من بعدهم ليكسروا الكؤوس الصينية التافهة التي لا تستعمل إلا لاستعراض جمالية الدواليب وتحتل منها مساحة شاغرة بلا مبرر، ولذا فهي هي الأحق بالكسر كما قالوا، ومسعود يستاء جدّا لأن أهله يحملونه مسؤوليّة كل هذه الاعتداءات وهو ليس سوى ساكن وحيد ورجل بيت لا حيلة له في الأمر. بعد ذلك جاء عهد انقطاع النور، عهد الظلام، وخروج أهل البيت منه، أخبروه أنهم مغادرون لزيارة وعليه إذا عاد إلى المنزل أن ينتظر عودتهم، ولكنه تأخر بسبب متابعته تحول رغيف البدر الكامل إلى نصف رغيف بسبب الخسوف، ثم تحوله إلى مظروف معوجّ بسبب زيادة من الخسوف، وكان حزينا على البدر فلم يحتمل رؤيته وهو في كامل محاقه وعاد فلم يجدهم فبدأ يشفق على نفسه، طلع الفجر قاتما بعض الشيء، فقال إنّ الفجر لا يأتي مسفرا في الليالي المقمرة كإسفاره في الليالي المظلمة. وتطوّرت ضجّة السكان الجدد في الظلام مما اضطرّه إلى اللجوء إلى الحمّام، ليعيش فيه عهداً يسترجع فيه الذكريات القديمة التي لا علاقة لها بالحضارة القائمة في المدينة. جرّب أن يخرج ويبدو كريما فسمح لنساء الحيّ أن يدخلن البيت بزنابيلهن ليجمعن الزبائل، وكان يعتقد أنه يرى ابنته الكبرى وزوجته بينهنّ لكنه شك بالأمر ثم تجاهله، واكتفى بأن يلاحظهن دون أن يسأل من هؤلاء؟ عاوده شوقه إلى القراءة فصعد إلى مكتبته، وإذا بابنه يصعد ببعضهم إلى مكتبته، يبدأ بعضهم القراءة بصوت عال ويسألونه أن يقرأ ويسمعهم ما يقرأ فيعلي صوته ويغيظهم برفعه حتى يغادروه تاركيه لأمره، ودع ابنه قائلا: لماذا تصر على التطفّل عليّ، هل تحاول أن تكون لي إصبعا سادسة، الإصبع السادسة متطفلة، لأنها تتدلّى بلا فائدة، ليس كذا فقط بل وتأتي لي بالعار. ثمّ يملّ القراءة وينزل إلى البهو فيرى الفوضى العارمة وضجيج السكان، فيرجع إلى الحمام وتبدأ مرحلة جديدة وعهد يسمى في تاريخ ذهنية مسعود بعهد البلل، لأنه يفتح الماء ويعرض جسده له حتى تلصق به ثيابه فيخلعها ويبقى في مكانه، وتنمو كل الزوائد في جسمه، فيمنحها بعضا من وقته، فتتوزع ملاحظته بينها وبين بلاط الحمام المظلم الأخضر، الذي يبدو لونه حينا، ويختفي حينا، بحسب تسلط الضوء من المنور أو من النجفة التي ظلت تضعف بالتدريج حتى انطفأت، وينتهي به الأمر بتشرخ جلد أنامله وأصابع قدميه، ثم بتشرخ جلد كفيه وقدميه بالكامل، في البداية نزع الجلد المنشق بلا أدنى ألم، ثم أتى الألم، وصبر عليه حتى نبت له جلد ضدّ الماء. غنّى لحمامة تنوح على نافذة الشفّاط، لأنه يكتسب شفافية حميمة تجاهها، واستعان بواسطتها على استرجاع اشتياقه إلى مكتبته وإلى التدوين، لكنه تكاسل، وسوّلت له نفسه أنه لا يتحرك من حوضه خوفا من أن تخاف الحمامة أو تتضايق، يتخيل أنه يحاورها، أنه لا يستطيع الحركة كيلا تفزع وتصطدم في الجدار أثناء طيرانها في المنور، ثم تصنّم حيث هو كيلا يجعلها تحس بالغربة من بعد رحيله، ليعوّدها على لحظات الخلوَة قبل أن يفارقها، ثم شعر أنه يحتاج لوجودها، أنه مضطر لوجودها، لكن بالرغم من كل ذلك فإنه حان وقت رحيلها فرحلت وتركته؛ لكنّ ذلك لم يخلّف في كبيرَ أثرٍ، فانعقدت بعدها بينه وبين الحشرات علاقة صداقة وثيقة، نادمته لعدة ساعات فراشةٌ غُبارية، وكان يقول لها: أنت فراشة مدينة، فراشة غباريّة بلا لون، وحدّثها عن جمال الفراشات الزاهية الألوان التي رآها في الخرائب. يصاب بنزلة معوية وبرد في جوفه لكثرة بقائه في الماء، فلا يستطيع الشرب إلا مع كثير من القيء، وهنا يحاولون إخراجه وانتزاعه من وحدته فيتجلد، وتنزل عليه عافية لا تفسير لها، ويكتشف أنه إذا لم يسمح لهم بالدخول فسوف يخرجونه، فيأذن لواحد منهم بذلك، والحقّ أنّه شخص مؤدّب، يطرق باب الحمام المغلق، وطرقه للباب يختلف عن طرق أي ابن آدم آخر له، فهو يطرقه بثقة وخفّة مغايرة لكلّ ما يعرفه، فالأطفال الذين تربّوا في بيته ونمت هيبته في قلوبهم يطرقون طرقات مترددة ناضحة بالخوف، والذين ما زال يدلّلهم يطرقون بقوّة وارتجاليّة لكن فيها وهَنُ الأطراف الغضّة، والكبار يطرقون بجفاء متسلّط ويتظاهرون أثناء ذلك بالقلق عليه. هذا الطارق المؤدب يأتيه ببيضة مخفوقة وشطيرة فطائر عسليّة، وقطعة شمّام، وكأس حليب محلّى بالسكّر، وذلك هو غذاؤه، ويتناوبون في أداء هذه المهمة، وقد تعلّموا منه جميعا طريقته اللبقة في طرق الباب. وتنتهي هذه الأيام ويخرج من عزلته فلا يعرفه أحد منهم، يكلمهم فلا يردون عليه، ويستمر الوضع وهو يفهم أنهم لا يعرفونه وبعضهم لا يدري أصلا كيف وصل هنا، لأنهم سكان جدد، والذين كانوا هنا ذهبت بهم ريح طيبة ولم يبق منهم أحد. يملّ البيت ولكنهم لا يسمحون له بالمغادرة فيستسمحهم في ربط قدمه بعمود المغسلة ضمانا لعدم هروبه، ويخرج ليجلس على عتبة بيته، يتعرف على امرأة مبرقعة تجلس على رأس الوادي بعصاها التي ينتهي أعلاها وأسفلها بأطراف بلاستيكية ليّنة، مولّية ظهرها لكلب ينبح وهي في كامل الاسترخاء، وكأنما لا صوت قريبا منها. قالت إنها تشعر بالملل، فقال لها ماذا كنت ستفعلين لو أنك حوّاء وأنا آدم، فقالت ربما دفعني الملل مثلها إلى إغرائك بأكل الشجرة. خلّل شاربه وفمه بيديه، باليمنى أولا ثم باليسرى، لم يحدث شيء، كشف جذعه العاري لعله يسمتدّ بتأثير منظره عليها شيئا من عطفها الذي احتاجه، يُحدث ذلك تأثيره المطلوب عليها، وفي ليلة قالت له أحب السقف المتهالك الذي يظلك والبساط الخشن الذي يلوّح إليتيك والكلاب التي تنبحك والثعابين التي تجد فرصتها لتموت مخنوقة على يديك وحتى زوجتك التي تحتضنها كل ليلة بين يديك. وقالت له: حبّك في قلبي ينطنط ويستلقي وينبطح ويمد بعنقه وينكمش ويزحف ويحبو ويضع رجلا على رجل ويبول واقفا أو جالسا ورجلاه ممدودتان ويداه منتصبتان خلف ظهره ويزعق ويشخر ويحلق ذقنه ويغني ويبصق بلغمه في قلبي. اكتشافه للوضعية الجنسية المتحررة التي ينفك بها من أغلال أوهام الضعف الجنسي، على يد امرأة مبرقعة تمرّ به فجأة، ويتعرف عليها وهو مربوط بعتبة الباب، هذا أثمن من نعم الجنة الدنيوية كلها، فيتخيّل وضعياته معها دون أن يباشرها معها، ويظل بعدها يحمل لها معروفا يحار في الطريقة العادلة لردّه لها، ويشجعه ذلك في غيابها على أن يعود لمكتبته ويدون شيئا.مسعود يتحدث عن أوراقه ويحاول أن يبدو متعقلاأحمل في جعبتي كلاما كثيرا وكبيرا، عن عبد الرزاق الذي كتب رسالة غريبة قبل اختفائه للسيّد الكبير، قال له فيها إنه لم يعد يرى لانتظار مواعيده أيّ فائدة ما عدا الفائدة التي قد تحصل من انتظار تفقيس بيض السحالي، وقال أيضا أن مشط السيّد الحديديّ يجرح فروة الرأس أكثر مما يسوّي شعث الشعر. وبين يديّ مجموعة من الأوراق الأخرى التي نتجت عن تلاقح أفكار ميّتة وتغيّرات للأجواء تتوعّد من لا يتوقّاها بذات الرئة، وفعلا نحن في الزمان الذي يصبح فيه المرء مؤمنا ويمسي كافراً. أما جاري عصام فله الدور الأكبر في سدّ الثغرات البسيطة، كردّ الشتيمة بمثلها على أقل تقدير، تعشّيت معه في السطح على وجبة كودو، هبرنا الدجاج بأيدينا هبراً ومضغناه مضغا سريعا، وكنا مستعجلين على الكيف فبدأنا التدخين قبل أن نمسح أفواهنا ثمّ تابعنا التدخين بأكفّ مدهونة، ولا أدري كيف تجرأت، رتّبت شاربي وفمي بيديّ، وقلت له ماذا تستطيع أن تفعل بالإضافة إلى توجيه الشتائم، فأجابني أستطيع أن أرى يا مسعود. وبدلا من أن يغضب أو ينتهي الحديث ضحك لأنه تذكّر عام الثمانين حين سقطت عين سيارته الكرونا وتدحرجت أمامه مسببة أزمة سير، وانقضّ هو بين السيارات المندفعة محاولا إنقاذها قبل أن تتهشّم تحت الكفرات، وفعلا أنقذها، قال لي إنه شعر بأنه يحمل بين يديه عينا حقيقية يسيل ماؤها في كفيه وإنه ما يزال سعيدا لأنه أعادها إلى موضعها سالمة، وانصرفنا ونحن على وئام لم نعهد له مثيلا منذ وقت طويل. أما غيره من الناس فلا يفعلون شيئا، وينصحون برعي الغنم واعتزال الناس في الشعاف الوعرة، لكنْ حتى رعي شاتين وحدك في الصحراء من شأنه أن يدخلك السجن من أوسع أبوابه إذا لم تمطر السماء كلّ سنة مرّتين مطرا غزيرا يجعل الخزامى تفوح في الأرجاء. ماذا لديّ أيضا، هذه أوراق مغبرّة لصديق قديم كان بيننا اتفاق على أن أقوم بالتعقيب له على أمر ما مقابل خدمة معلومة، وإما أنه نسيني، أو أنه زهد في بذل الخدمة مقابل أختها، وفي كلتا الحالين سينسى حتى نسيانه. ما هذا الصوت الممطوط الذي أسمعه وكأنه نداء حنون لشخص يندب حظه، أهو المقطع البطيء لحرف المدّ في كلمة (سوّاح) وعبد الحليم ما يزال يعدّ نفسه ويحشد أنفاسه، ومازالت لديه مهلة لعرض المهارة وتليين القلوب قبل البدء. مررنا بحيوان نافق رمته مزرعة داخلية خاصة، رأسه كرأس البعير نوعا ما ويغطيه الوبر، لكنه ليس بعيرا، ويشبه متنه الحصان، وإذن هو كالحصان وما هو بالحصان، قيل إن جرثومة مستعجلة على إتمام مسعاها هي التي قضت عليه، ولم يفلح التعجيل في طلبيّة العلاج النادر الذي أوصى به البيطريّ الذي كان يأتي دائما ومعه الخلاص لبهائم المزارع الفارهة وخاصة بهيمة اللاما. أحمل في جعبتي ليس ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بل ما يرى ويسمع ويخطر، لكنه لا يحكى، والمتألّقون والمتألقات كثُر كعدد النجوم بل كعدد الرمل ولكن أين ما يمكن أن يحكى. ونحن صغار-كي نتجنب الكذب-اعتقدنا بأن العبد الزنجي لم يسودّ لونه بهذا الشكل، ولم تغلظ عنقه وتصبح بهذا العرض إلا لأنّه يكتم ما يعرفه. ثمّ كبرنا لنعرف أنّ الذئب لم يكن ليأكل اللحوم المتعفنة بعظامها لولا ثقته بكفاءة أمعائه الغليظة ومرونة فتحة شرجه. مثل هذه الوقفات تصلح كمقدّمات أو نهايات مدوّية ولكنّها إذا جاءت في المنتصف تكون كالغصة في الحلق خاصة إذا تضارب المستوى، وإذن فنحن في المنتصف. وفي منتصف المدينة أمام البنك السعودي البريطاني ازدحم كلّ شيء ولم أعد أرى إلا اللوحة الإلكترونية ذات الخطّ الأحمر ذي الهيكل العقيم، وهي تتناقل برتابة بين درجة الحرارة والتوقيت. الانتظار حكمة في كل شيء. الأمثال والحكم -بوجه عام- لا يزال لها فعلها المؤثر والقادر على الإقناع بالرضا بالقليل أو اللاشيء وحتى العبور على صراط الموت مقابل لا شيء، ولا تزال تصرّ على أن تكونَ أبديّة البقاء، محافظة على أدق تفاصيل قسمات أبديتها. كل هذا ممكن، لكن ماذا عن الاهتمام برونق المسجد ونسيان الساجد وماذا عنّي أنا، وقعت ضحية عملية حسابية طويلة عريضة لا نهاية لها وفي النهاية سمعتني إحدى العجائز فقالت: "ما تقوله باختصار هو أنك أعزل ولا سلاح باليد"، دهمني إحباط لا يقاوم، نسيت ما سيأتي في خضم ارتعابي من هول ما مضى. ولا داعي لبهرجة الاعتراف بما هو ظاهر للعيان، فقد شرعت في رصد المشاهدات وتركت جعبة الأوراق القديمة الملأى بالحكايات الغريبة عن بيوض السحالي والاستعانة على الحرمان بإدخاله بين مخدات المجالس الفاخرة السمينة. كلّ هذا ممكن، ولكن السؤال المهم لم يطرح بعد، فأنا الأهم أولا وآخرًا والكل في الكل، وما دامت الدنيا مصرّة على أن تكون جديرة ومؤهلة ومستحقّة للمسيح الدجال حين يأتي ليحكمها فما دخلي أنا، نعم أنا، إنه تفكير جيد اعتقدت بسلامته منذ نمتُ ذات مرّة بكامل ثيابي لأن تساؤلا محيّرا لبسني، ما هذه السوداويّة طالما الغروب له سحره والشروق له رونقه والنكات لها قبولها والمباهج لها فتنتها والحيطان والأسقف لها سماكتها، وهل يمكن تجاهل أنّ كلّ شيء يرسل إشارة عفوية إلى أنّ قافلة الآمال الطويلة تسير بلا تقاعس، وإلى الآن لا، إلى الآن لا توجد ديون ولا انقطاع في الكهرب، وحتى على مستوى الهوايات لم ينته ما في جعبة الورق الأصفر المبروم، وكل ما هنالك أني أجّلت فتح كل الملفّات لأن لكل مقام مقالا. والحقيقة أني أدير المقال بحسب المقام وأثبت كل يوم مهارتي بكفاءة نادرة. باستثناء الاحترازات التي لا يمكن إغفالها، فلا بد أن لكل قاعدة شواذها، خذ مثلا عندما قال لنا أحدهم-في إحدى العزائم- أنه ماهر في الحساب، وأجرينا له اختبارا بسيطا فثبت لنا جهله، ورفضنا زعمه وسخرنا منه، لكنه دعانا إلى الخارج وأثبت لنا مهارته بأن رفع سيارة الهوندا الصغيرة الواقفة بذراعيه العاريتين، وتحدّانا أن يقوم منا ثلاثة مجتمعين بفعل نفس الشيء، أطلنا النظر إليه واجمين، فقال لنا أنتم تكرهونني من أجل نعمتي وتتمنون زوالها، أدركنا أنّ ما يقوله يحمل في طياته قدراً كبيراً من الصدق، فسكتنا،واقتنعنا صاغرين.الهلوسات الأخيرة التي أودت بحياة مسعودكان لظهور ميمونة النحاسيّة في هلاوسه قصب السبق في تدهور ردود أفعاله عن وساوسه، لكنّها كانت مجرد قضمة أخيرة لفأرة مأرب في السد، ولذلك فقد عرف أنها ستكون افتتاحية في مآسيه منذ تعذر عليه في لقائه الأول بها أن يشاركها في قضم الفطائر العسليّة، ويتعذر فهم وجه هذا التدهور إذا حُذِف منه أي مشهد، ولذلك قبل استحلاب قطرات الدّم لنصبّ مرارتها اللزجة على ألسنتكم الحسّاسة نعتذر عن مذاقها، وقبل أن تكشطِ العقد الشّوكيّة النافرة من الحبلِ المتقشّف جلودكم الطريّة نعتذر عن ملمسها، لكن ما قيمة الحقيقة إن لمْ نر العظم تحت الجلد الناعم، وهو آخر ما يبقى من الجسد، ورؤية العظم خلف الوجه والورك والصدر هي الفكرة الوحيدة التي يتحصن بها الذين استعصوا على حبائل النساء. إذا كنا نخادعكم عن هلوساته فما جدوى سرد شيء منها، وإذا كنا سنقفز منها شيئا فسنقفز إذن تفاصيل كل الهلوسات الثلاث التي تكررت ثلاث مرات في أمكنة ثلاثة، بلا اختلاف في المرئيّ والمسموع سوى أنّ هذه، التي نرويها لكم الآن، كانت في الحيّ العجوز الذي سينتفض ترابه ويغطي أحذيتكم غباره المتطاير إلى مستوى الكاحل، وثمة هبّة قويّة ذات الشمال قد تهب عليكم وقد لا تهبّ، وقبل الوصول إلى المزرعة المسيّجة عبر ملاحق العمّال التي أصبحتْ منازل لمشرّدي الأفارقة، هناك في القاعة التي ستلاحظون أنها مترامية مطليّة بلون فاقع حادّ رغم دنوّ المساء وخفوت ضوء المصابيح، تجدونه يشارك في النياحة على أعزّ أقاربه الباقين على قلبه، تفاوتت الأماكن والمناظر والمناخات التي عوى فيها معهم وهو ينوح على هذا القريب العزيز، وازداد طعم نياحته مرارة عندما جرّب التركيز ليعرف من كان الفقيد بالتحديد، عوى، لم ينقطع عواؤه، ولكنّ صدره تجوّف من الداخل وتلاصقت جدرانه، كقربة امتصّتها شفتان شرهتان ولم يتبقّ فيها حتى الهواء، صار صوته أخفض وارتفع مستوى اللوعة المنبثقة من وجدانه وهو يستشعر اضمحلال الطاقة التي تمدّه بها حباله الصوتية. إن كنا سنمحو حرفا زائدا مما رآه فسنمحو ما جرى في الجلسة التي تلتْ ذلك والرجل المكلّف بمهمّات الاستضافة، يشقّ أرغفة الخبز أنصافا، ويحشوها بسائل مخاطي أبيض يتدلّى من الملعقة الخشبية الكبيرة كذُبالة ثقيلة لسائل نستحي من ذكر اسمه، يوزّعه عليهم فيأكلون الساندويتشات أكلاً عاديّا بلا نهم وبلا تقزز، التأنيب هو ما كان يملأ جوفه وليس طيش الأمعاء الذي من عادته أن يتبختر كتبشير بالقيء. إن كنا سنتخطى ما لا يُعقل –والتخطي لا يعني إلا مزيدا من الجهل بما يدور في ذهن مسعود- فهل سنتخطى أنه شعر بلا عقلانية ما يحدث، وتذمر من انقطاع المناحة على الرجل العزيز، لأنهم نفخوا في بوق الاستدعاء الفوري، وفتحوا أحد الأبواب الخمسة الفولاذية الصدئة، التي بدت في جدار السور الهائل كفتحات صغيرة للرؤية، وأمروا الموجودين بالمساعدة في إطفاء نار تزحف باتجاه الجنوب بفعل الريح الشماليّة، سترون الورق وباقي الهشيم تقفز به الهبوب المنخفضة وتحطّه ثم تقفز به ليرتطم بالأرض مرة أخرى، واللهب اللافح يفحّ وهو يتنقل من شجرة هرمة إلى أخرى، البعض قفزوا من علوّ السور (كيف استطاعوا أن يتسلّقوه!)، وهو وجد أنّ الباب مسدود ببلوكّات بسمك عشرين سنتيمترا ترتفع إلى مستوى الرقبة، فكاد أن يصيح بهم: وما فائدة فتح الباب، ولكنّه، من خلف البلوكات، رأى كل واحد منهم يفرغ سطلا مليئا بالماء على النار، ويجري إلى الداخل باتجاه امرأة يتبطّنها فيضاجعها مباشرة، وكلّ تحرّكاتهم لها نفس التشنّجات ونفس الوقع الدامي للمعارك الخالدة، تملّكه حماس لا يضاهى، ووجبت نياط قلبه داخل صدره، خلل شاربه وفمه بيديه، باليسرى ثم باليمنى، وطنّت في أذنه نداءات ذات إيقاعات بطيئة كمواويل الحوريات، وانطلاقا من صدغيه، جرى في عروقه دم كان يجري في عروق أجداده وهم يقتحمون الأسوار، ويكسرون بسواطيرهم المتاريس الخشبية في المغازي، وهم يحلمون بالجواري، بالجميلات منهنّ على وجه التخصيص. تدفق البلل من شدقيه وإبطيه ومعبره الرئيسي للرغبة، وتسلّق السور الحجريّ بدوره، بأظافر لها صلابة وبرودة وانشحاذ الفولاذ الأسنّ، وقفز في وسط النيران (أيضا هو لا يدري كيف فعل!). إن كنا قد اعتدنا على الحذف فإذن سنحذف أنه وجد معشوقته ميمونة النحاسية مستلقية مفرودة، وفتى قائم على ركبتيه وقد سبقه إليها، رأى كرامته تُمتهن أمامه فهاج وماج، وهاهنا بدأت الأماكن تتفاوت والمشاهد تتغيّر بتسارع، ففهم الأمر على أنه تضييع للوقت ريثما يتمّ الفتى مسعاه ويطلق ساقيه للريح، إن كنا سنغفل شيئا مما جرى له فسنتجاهل أنه، بعد تكرار هذه الهلاوس للمرّة الثالثة، أصبح يعتبر أنّ الحياة بلا جدوى؛ ما دامت مشاهدها تبدأ بفقدان عزيز، لتنتهي باغتصاب حبيبة لا يملك القدرة على إنقاذها. نفس القهر يتكرر بلا نهاية، في خلفيّات لا يتغير منها إلا أماكنها وطقوسها وناسها في كل حين؛ وكل ذلك لتبقى الحوادث -دائما- مشحونة بالقدر اللازم من الفجيعة وهول اللحظة الآنية. البشر والأرض والأيام والليالي ولا تنسوا المذاقات أيضا، كلها مسامير متخلخلة لينة تثبّت الورقة الرخوة على الجدار الهشّ، لذلك قرّر التخلي عنها جميعاً، كسر ماسورة المغسلة التي تربطه وتعيق حركته، ومضى ركضاً إلى الجسر المعلّق على وادي لبن، ونفّذ قراره فورا، فألقى بنفسه، وطوال لحظة السقوط ظلّت عيناه معلّقتين بأعمدة الجسر المتألقة مثل خيوط خيمة فضيّة تتدلّى من السحاب.انتهى السرد.
Friday, November 19, 2004
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment