طفق مهنّا يكتب: "دخلت وأنا جائع، وخرجت شبعانَ، أشرقت الشمس على طفل وليد وغربت على أناسٍ يدفنون ميّتاً، ناموا ليلا، واستيقظوا فنام آخرون، في الروث رائحة من البخور وفي البخور نفثة من الروث، وأنا الآن غيري أمس، وبرغم ذلك قد أتكرر بلا نهاية".
نظر إلى ما كتبه وأحسّ بالرضا لكنه لم يملك الشجاعة ليغلّفه ويرسله إلى الجريدة، وانخرط في متاهة من استبدال المشاهد والألفاظ بعضَها ببعض، فبدلا من الشبعان أدخل الحب والكراهية، وبدلا من الروث جاء برائحة التفاح. ومضى يغيّر ويمسح ويكتب ثم يعدل ويمسح ويكتب، إلى أنْ نسيَ الفكرة الأساسيّة التي فتح لها قوس الموضوع، وأضنته محاولة التذكر فترك ما في يده وهم بإطفاء الأنوار لينام، فقد كان الوقت سحَراً، وعندها طُرِق الباب. وفتحه، فتقدمَ من الظلمة رجل له هندام حارس أمن، أسمر، وله جبهة لمّاعة، وكلماته محصورة في الأوامر كما سترون:
- تنحّ عن طريقي، وخّر.
وعبر حارس الأمن إلى رواق العمارة الذي نحتت فيه شقق العزّاب عن اليمين والشمال، وانتشرت فيه روائح البول الملبّد، حاول مهنّا أن يهرب، ولكن قوة الرجل طاغية، وتصرفاته مخيفة، وتنبئ عن ذاتٍ مسيطرة، اتّجه بلا تردد إلى أوراق مهنّا وكأنما هو مطلع على الغيب، رفعها أمامه لحظة ثم ألقى بها على الطاولة في استهتار، وسطت يده على دورق الماء فشرب ما فيه بعدوانيّة، وألقى به على الأرض فتهشّم، ثم عقد يديه أعلى صدره، وتسلسلت بعد ذلك الأوامر التي غيّرت المسار الفني لمهنّا؛ قال الحارس بحزم: - سأعود إليك غدا في هذا الوقت، أحضر قلم رصاص وتلاوين مائية وزيتيّة ونماذج للوحات رسم.
أغلق مهنّا الباب ورتّب ما تبعثر وتخلص مما تهشّم، ووفى الحارس بوعيده فجاء غداً في وقت السحَر، شمّر عن ساعديْه وضرب جبهة مهنّا براحته، وأمره برسم ما كتبه على أوراق الرسم، وأراد مهنّا أن يرسم أشكالا فضربه الرجل الأسمر مرّة أخرى، واستمرّ يحاول الرسم وفي كل مرّة توجّه له في جبهته ضربة مؤلمة، وينظر في عيني الحارس وفي جبهته فلا يرى إلا لمعانَ الحزم وسياط الوعيد. حدّد له موعدا يوميّاً صارما لا يتقدم ولا يتأخر عن وقت السحَر، يحاول فيه الرسم ويُضرَبُ في رأسه كضرب العبيد، وصار بعد ذلك يعرف الموعد المحدد ويسمع الخطو على بلاط الممشى والحذاء الأسود اللامع يضرب الأرض بقسوة، فيفتح الباب قبل أن تمسّه أصابعه، وقلّما تخلّف عن ذلك. وأخيرا وضع يده على أسلوب جديد في الرسم: يكتب القصّة مشتتة كما تجيء، ثم يحوّل كلماتها إلى أرقام أبجدية بهذا الأسلوب الخاص: أبجد = 10، هوز= 18، وهنا كفّ حارس الأمن عن ضربه، وصار يدندن ويحرك قدمه طربا، وتولّى إعداد الشاي بنفسه وتأليف النكات والطُّرف لتلميذه المجدّ. هذا الاستحسان أصاب مهنّا بعدوى الحماسة، فابتكر لنفسه أوضاعا واثقة وصار يرسم ما يريد كتابته بالأرقام الأبجديّة، ويكبر الخط ويصغره ويلوّنه بحسب صبغة الكلمة، ويجري عمليات حسابيّة غير مضبوطة، ويسجل النتائج أفقية أو رأسيّة أو مائلة، بالطريقة التي يمليها عليه شعوره بجرم الكلمة ومعناها والعاطفة التي تنبثق منها، ثم تحوّلت الأرقام بعد ذلك في ذهنه إلى ذاكرة بديلة للحروف، وتصرّم شهر كامل من الإشراف المستمرّ أنفق فيه مهنّا مرتبه على اللوحات والألوان، وشعّت فيه غرفته بروائح الموادّ المستخدمة، واسودّت رؤوس أصابعه، إلا أن هذه الفترة أكسبته حبا جما لما كان يجبره عليه الخوف في بداياته، وعرف طعم الأمان والرضا والمفهوم الحقيقي للنشوة، وانبجست من دماغه ترانيم وتعبيرات رقميّة ما كانت تخطر له ببال، وما كان هو نفسه ليصدق أن دماغه الكليل سيتفتق عنها، وذات مرّة طلع الفجر وأشرقت الشمس بعده ولم يأتِ حارس الأمن؛ وحاول مهنّا أن يتخلص من بوادر الإحباط المحدقة به فانهمك في تجربته، وأرسل منها نماذج إلى الصحيفة، فتبنّتها بالقبول، وتفشّى صيتها كريح عاتية، ولم تمضِ أشهرٌ إلا وشهرتها تضرب القلاع النائمة وتهدمها. ونسي مهنّا كل معاناته وكل ماضيه البئيس، أقيمت له معارض داخلية وأخرى في العالم العربي ثم في روما وباريس ونيويورك، وأحرز سبقا مرموقاً لم يحققه عربيّ قطّ، وذكر اسمه في كل الصحف ومحطات التلفزة، بمناسبة وبلا مناسبة. وتسأله المذيعات وعارضات الأزياء وعمالقة الدنيا عن السرّ في إبداعه فيجيب بتثاقلٍ سخيّ:
- السر يكمن في الحظ، أنا امرؤ محظوظ فقط.
وإذا أراد أصدقاؤه الجدد أن يتصنعوا الضحك سألوه:
- من أين تعلمت أسلوبك.
فيجيبهم هذه المرّة بتفكّه:
-تعلمته من حارس أمن أسمر، يلف على وسطه حزاما ثقيلا، ويصفعني ليلَ نهارَ كي أتعلم.
كان مطمئنّا إلى اعترافاته لأن كلماتها لم تكن سوى مثارٍ للتقليد والتندّر، ولم تؤخذ بجدّيةٍ قطّ، ولطالما استدل بها المتزلفون وأرباع المثقفين ليبرهنوا على تواضع العبقرية وعبقريّة التواضع. تهاطلت العزائم الثقافية على رأس مهنّا حتى أثقلته، ودُعيَ إلى حفلات خاصة ورحلات سياحية في جزر آسيا الاستوائيّة، ووطأ بقدمه المواطئ التي وطأها مجانين الفنّ؛ فشرب مثل موديلياني ونكح مثل غوغان وتاجر مثل بيكاسو وهرطق مثل كل ملاعين الفنّ وأطلق عليه لقب نبي التشكيل العربي. وبينما هو يقضي قيلولته -على بعد مترين من المسبح في أحد فنادق أوربّا، وظهره ملموم في منشفة زهرية، وهو يستنشق الهواء النديّ مغمض العينين، ويتمتّع بذكريات متع البارحة- سمع خطوات بطيئة لا تخطئها ذاكرته، فتح عينيه والتفت فأبصر الحذاء الأسود اللامع يضرب البلاط الفاخر، والسترة السوداء تحيط بجذعه عوضا عن زي الحراسة، حاول مهنا أن ينهض ويضع شبشبه في قدميه ليستقبل الأستاذ (هكذا كان يسميه)، إلا أنّ انفعاله أصابه بتشنّج طفيف، وتصلبت عضلة فخذه. اقترب الأستاذ باسما، وأبدى لطفا كبيرا وهو يمس كتف مهنّا برفق، ثم نطق:
- جاءت بك أرقامي الأبجديّة إلى سقف العالم ورمتني في الشارع، منحتك الأسلوب والثقة والأمان، ولم أمنح نفسي شيئاً.
شحب مهنّا لهذا التداعي الذي يشبه الملامة، وكاد يقضي خوفا، لأنه يعرف حقيقة القدرات الهائلة التي يتمتع بها حارسه القديم، لكنّ الأستاذ واصلَ ملاطفته للكتف وأضاف بسحنة كامدة:
- هوّن عليك، لا تستعجل، جئتك لترد إليّ الجميل.
أفرخ روع مهنّا، وتحررت عضلاته، وانصرمت المفاهمة عن اتفاق يسير: دفعة مقدمّة للأستاذ، شاملة لتذكرة العودة، ونسبة خمسة في المائة من كل لوحة يبيعها مهنّا في المستقبل، مع تحمل تكلفة التأمين الصحي السنويّ لحضرته.
No comments:
Post a Comment